استعرض التقرير الصادر عن الدورة السادسة للقمة العالمية للحكومات، بعنوان «إحداث تغيير في دول مجلس التعاون الخليجي من خلال التبصر السلوكي»، 12 هدفاً تنموياً وطنياً رئيساً في هذه الدول، يمكن أن تسهم التدخلات السلوكية في تحقيقها.
وتتمثل هذه الأهداف في تحقيق الاستدامة البيئية، والحفاظ على نمط حياة صحي، وزيادة المشاركة المدنية، وتعزيز الهوية والقيم الوطنية، وتشجيع تربية الأطفال الفعالة، وتمكين المرأة، وتوثيق التماسك الاجتماعي، وحماية المستهلكين، وضمان أمن المواطنين وسلامتهم، وتعزيز مجموعة مواهب من ذوي المهارات العالية، وأخيراً، زيادة إنتاجية القطاع العام.
وتعكف حالياً دول مجلس التعاون الخليجي، على تطبيق برامج تحول وطنية طموحة، لتحقيق حزمة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الرئيسة، ولن تكون عمليات وضع السياسات التقليدية التي تتضمن الحوافز والقواعد والتنظيمات، كافية وحدها لتحقيق هذه الأهداف، ويعزى هذا الأمر إلى «التحيّزات المعرفية» لدى الناس.
وأفاد التقرير بأن العديد من الدول تسعى إلى دمج التبصرات السلوكية ضمن عمليات صنع القرار لمواجهة هذه التحيّزات، وتحسين كفاءة السياسات الجديدة، ويعتبر دمج التبصرات السلوكية في تصميم السياسات، مكملاً لأدوات السياسات التقليدية، إذ يوفر فهماً أكثر واقعية للسلوك البشري.
وبين التقرير أن العلوم السلوكية تجمع معلومات من علوم الاقتصاد والنفس والاجتماع والأعصاب، لتشكيل مجموعة من الأدوات، تمثل رسائل تواصل موجهة، ومقارنات، وخيارات افتراضية معدلة، ونماذج يقتدى بها، مشيراً إلى أن لهذه التدخلات السلوكية، فعالية عالية في تحقيق أولويات القطاع العام، خاصة الاستدامة البيئية ونمط الحياة الصحي والتفاعل المدني.
وأشار إلى أنه لتطبيق هذا التوجه، يجب أن تقوم حكومات دول مجلس التعاون الخليجي مبدئياً، بتأسيس وحدة مركزية للتبصر السلوكي لجمع البيانات والمعلومات، واختيار الأدوات السلوكية الصحيحة، بغرض تطبيقها في التدخلات السلوكية وتحسينها، وسيسهم هذا الأمر في تسهيل نقل المعارف، وضمان تحقيق أفضل قدر من التنسيق بين الأقسام وتوفير التكاليف.
وذكر أن العلوم السلوكية، يمكن أن تساعد دول مجلس التعاون الخليجي على تحقيق العديد من أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والبيئيّة الواردة في إطار خطط التحول الوطني المتنوعة الخاصة بكل منها، مثل الرؤية الاقتصادية 2030 لإمارة أبوظبي، ورؤية الكويت 2035 «الكويت الجديدة»، ورؤية المملكة العربية السعودية 2030، ورؤية الإمارات 2021.
ولفت التقرير إلى أن أدوات السياسات الحكومية التقليدية، لم تنجح في تغيير السلوكيات، إذ إن تصميم هذه الأدوات، غالباً يشتق من نماذج اقتصادية قياسية، ومن تصاميم سياسات تستخدم تخمينات قائمة على المعارف والخبرات، بشأن كيفية استجابة الناس.
وأوضح التقرير أن العامة غالباً ما يتعلقون بعادات وسلوكيات غير صحية، بالرغم من أنهم يدركون العواقب السلبية لتصرفاتهم، نتيجة العدول عن السلوك العقلاني «التحيزات المعرفية»، وهذا ما يفسر استعداد البعض لتحمل أعباء ديون بطاقات الائتمان للشراء الفوري، عوضاً عن الادخار.
وعرف التقرير «التحيّز السلبي»، بأنه السماح للتجارب السلبية بالتأثير في القرارات الجديدة ومنع حصول التغيير، إذ تحد التحيّزات المعرفيّة من فعالية السياسات الجديدة، وتمنع حصول التغيير، وتفاقم المشكلات القائمة.
وأشار إلى أن تحليلات العلوم السلوكية، تعمل على تحليل التحيّزات المعرفية، عبر تضمين مجموعة واسعة من المعلومات المستقاة من علوم الاقتصاد والنفس والاجتماع، وتستخدم العلوم السلوكية هذه المعلومات الشخصية (المعتقدات، والمواقف، والسلوكيات العاطفيّة)، لتصميم تدخلات يمكن أن تغير من سلوكيّات الناس وقراراتهم، دون فرض قيود عليهم، ما يسهم في الحفاظ على حرية الاختيار لديهم.
وذكر التقرير أنه في عام 2010، أسست المملكة المتّحدة، فريق التبصر السلوكي «BIT»، الذي يعتبر أول هيئة تنجح في تطبيق التبصر السلوكي على عمليات وضع السياسات، ثم بدأت دول أخرى، مثل أستراليا والصين وفرنسا وكينيا وسنغافورة والولايات المتّحدة الأميركية، في تأسيس هيئات مماثلة. ولفت إلى أنه يجب على الحكومات وضع الهيكليات الداعمة وأدوات السياسة القياسية من أجل إنجاح التدخلات السلوكية، إضافة إلى تطبيق الأدوات السلوكية المناسبة لكل مجتمع.
وشدد التقرير على ضرورة التخطيط المسبق لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي، بعناية فائقة، من أجل زيادة كفاءة دمج العلوم السلوكية في عملية وضع السياسات وإدارة تحدياتها، حيث تدمج التبصرات السلوكية في معظمها بمرحلتي صياغة وتنفيذ السياسات، وتبدأ التدخلات السلوكية ببحوث مسبقة، لتحديد ما إذا كانت التحيزات المعرفية هي جذور المشكلة، وبالتالي، إعداد الأدوات السلوكية الصحيحة للتأثير في سلوك الأفراد المستهدفين.
وهذا هو أطول جزء من العملية، ويمكن أن يستغرق ما بين ستة إلى ثمانية أشهر، أما الفترة الفعلية للتطبيق، فهي تمتد من ثلاثة إلى أربعة أشهر، فيما ينبغي مراقبة الأفراد المستهدفين، والتحقق من التغيير الحاصل في سلوكهم.
أما في مرحلة صياغة السياسات، فيجب تحديد المشكلة، والشريحة المستهدفة، والأهداف المرجوة، ومن ثم تحليل الدوافع السلوكية التي تؤثر في النتائج ذات الصلة، لتحديد التدخل السلوكي المناسب.
استعرض التقرير، أبرز 6 أمثلة شائعة عن الأدوات السلوكية، وهي توجيه رسائل التواصل، وتعزيز الوعي الخطابي، والاستفادة من النماذج الناجحة، ووضع خيارات افتراضية جديدة، وتحفيز الأفراد عبر الألعاب، واستخدام الأدوات الاستدلالية، بشرط أن تتمتع الأدوات السلوكية بالشفافية وعدم التضليل، وأن يكون الانسحاب منها سهلاً، كما يجب أن تسعى إلى تحسين رفاهية الناس.
وأضاف أن حملات التواصل التي تسخر التبصرات الثقافية والنفسية العميقة، تعتبر جوهرية، لتمكين إحداث التغيير المطلوب بشكل فعال، فيما يعبر الوعي الخطابي عما يرغب الأشخاص قوله أو التعبير عنه شفهياً، بما يتعلق بالظروف الاجتماعية، حيث يمكن أن تقوم القنوات الإعلامية بدور في تصميم التدخلات في المدارس، مثل تحديث المناهج الدراسية، والدورات التدريبية، والرحلات الميدانية، وتثقيف الجمهور بالسلوكيات المطلوبة.
ويمكن أن يؤدي اختيار علامات تجارية أو شخصيّات عامة، مثل الرياضيين والفنانين والقادة السياسيين، أو حتى تكوين نماذج لشخصيات خيالية لدعم السلوكيات المطلوبة، إلى تشجيع المزيد من الناس للسير على خطاهم، وعلى صعيد مشابه، يمكن أن تؤدي المقارنة من قبل الأقران إلى تحفيز التغيير عبر إثارة الشعور بالفخر أو العكس.
ويؤدي استخدام اللوائح بهدف اعتماد النتائج المرجوة كخيار افتراضي، مثل جعل الخطط الصديقة للبيئة، كالحد من استهلاك الكهرباء في المنازل، خياراً وليس فرضاً، إلى زيادة مشاركة الأفراد دون الحد من حريتهم في الاختيار، من أجل تحقيق الإنجازات المرجوة.
ويسهم وضع الأهداف الشخصيّة أو المنافسات بين الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، في تعزيز شعورهم بالكفاءة الذاتية، وترسيخ السلوكيات المطلوبة اجتماعيّاً، من خلال استخدام الأدوات الاستدلالية، مثل استخدام «اختصارات» عقلية، كالشعارات والأغاني والإشارات البصرية وغيرها، في تسريع عمليات صنع القرار لدى الناس، إضافة إلى مساعدتهم على اعتماد حلول مرضية ّ للتوصل إلى السلوكيات المرجوة.
ويرفد التبصر السلوكي، عملية وضع السياسات القياسية، عبر تقديم نظرة أكثر واقعية للسلوك البشري، والسماح بالتحسين والتأقلم خلال هذه العلمية، ويعمل لاحقاً على تصميم تدخلات سلوكية، باستخدام أدوات متنوعة لتحقيق النتائج المطلوبة.
ولا يمكن إجراء هذا النوع من التجارب باستخدام السياسات القياسية وحدها، ومثال ذلك، فشل عمليات تشجيع الأهل لأطفالهم على القراءة من دون استخدام أدوات التشجيع الملائمة لسنهم، وعليه، إذا أرادت الحكومات نجاح التدخلات السلوكية، فيجب عليها وضع الهيكليّات الداعمة وأدوات السياسات القياسية الكافية، إضافة إلى تطبيق الأدوات السلوكية المناسبة.
ويجري دمج وحدات التبصر السلوكي ضمن المؤسسات العامة بإحدى الهيكليّات الثلاث، وهي نموذج مركزي، أو نموذج غير مركزي، أو نموذج هجين، ويعتمد اختيار النموذج على الثقافة المؤسسية للبلد وكثافة التدخلات السلوكية، ويمكن للنماذج أن تتعايش وتتطور بمرور الوقت.
ويتألف النموذج المركزي من وحدة تبصرات سلوكية واحدة، تكون مملوكة بشكل كامل للحكومة الوطنية، وتنبثق من إحدى الهيئات العليا، مثل مكتب رئيس الوزراء، ويتمتّع هذا النوع من الوحدات بتفويض لدمج واستخدام التبصرات السلوكية في عمليّات صنع القرار، ودعم استخدام التدخلات السلوكية في الهيئات الحكومية.
وتعتبر وحدة BETA في أستراليا، التي أسست عام 2016، أحد الأمثلة عن النماذج المركزية، حيث شرعت 17 إدارة مختلفة في الحكومة الأسترالية في البداية باختبارات مستقلة متعلقة بتطبيق التبصرات السلوكية في السياسات العامة.
تطرق التقرير إلى ثلاثة تحديات رئيسة قد تواجه واضعي السياسيات خلال تطبيق التدخلات السلوكية، وهي صعوبة القياس والمخاوف الأخلاقية والنتائج غير المرغوب بها، وتكمن الأولى في عدم توفر ضمانات تكفل عدم تكرار النتائج، فعلي سبيل المثال، لا تزال بعض المجتمعات تنظر إلى البدانة على أنها دليل ثراء، لذا، يجب على واضعي السياسات تغيير القاعدة الاجتماعية، من خلال تأطير رسائلهم المعممة بشأن المخاطر الصحية المرتبطة بالبدانة، كاستخدام الاستدلال لزرع مفاهيم حول التغذية السليمة في أذهان الأفراد.
أما التحدي الثاني المتعلق بالمخاوف الأخلاقية، فيبرز أهمية الدور الهام الذي يؤديه البروتوكول الأخلاقي في التخفيف من الانتهاكات الأخلاقية المحتملة، عند إجراء التدخلات السلوكية.
ويأتي التحدي الثالث، وهو الحصول على نتائج غير مرغوب فيها، نتيجة التعقيد الذي تنطوي عليه، بسبب استخدام الطرق غير الملائمة، ونتيجة لذلك، فإن واضعي السياسات التقليديين، يخاطرون بالنظر إليها على أنها غير مجدية، وعلى سبيل المثال، فإن برنامج فرص العمل الجديدة للمرأة في الأردن، الذي يعتبر جزءاً من مبادرة البنك الدولي للشابات، لا يراعي المعايير الإنسانية التي تقيّد التقدم الاقتصادي للمرأة، وتهدف المبادرة إلى تشجيع الشركات على توظيف خريجات شابات بعد تدريبهم لتعزيز قابلية توظيفهن.
تعتبر العلوم السلوكية منهجاً جديداً في وضع السياسات، وتحظى في الآونة الأخيرة باهتمام متزايد من قبل الحكومات حول العالم، وتبشر العلوم السلوكية، دول مجلس التعاون الخليجي بفوائد كبيرة، في حال استخدامها بشكل صحيح.
ويمكن أن يساعد تطبيق التدخلات السلوكية، بناء على تبصرات العلوم السلوكية في تحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية، في وقت تكون أدوات السياسات التقليدية غير كافية لتحقيقها، كما يمكن أن تساعد التدخلات السلوكية في جعل استهلاك المياه والكهرباء أكثر كفاءة، إضافة إلى تشجيع سكان دول مجلس التعاون الخليجي على إعادة التدوير، وتعزيز أنماط الحياة الصحية، وتكوين ثقافة الامتثال للضرائب الجديدة.
ويجب على حكومات دول مجلس التعاون الخليجي، تأسيس فرق للتبصرات السلوكية لتطبيق التدخلات السلوكية، ويجب أن يكون الفريق متخصصاً لتصميم التدخلات بغرض دعم فرض تطبيق السياسات، ومواصلة جمع تبصرات العلوم السلوكية لتحسين فعالية هذه التدخلات، وباعتماد هذا التوجه، ستتمكن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي من استكمال خطط التحول الوطنية واسعة النطاق.