أينما وُجدت السلطة يوجد الصراع عليها … وأينما وُجد الصراع على السلطة وُجدت الإغتيالات السياسية. ولكن بالتأكيد السلطة ليست دافعاً وحيدا للإغتيالات فهناك النزعات العرقية والطائفية بين الجماعات المختلفة، أو داخل الجماعة الواحدة أحيانا .
وقد شهد تاريخ البشرية سلسلة لا نهاية لها من عمليات الاغتيال السياسي، كان قانونها الأساسي والأزلي يتكون من مادة واحدة تتضمن جملة واحدة تقول: ” اقتل عدوك قبل أن يقتلك فالغاية تبرر الوسيلة ” . إنه قانون لا يستثنى أحدا من اللاعبين فوق خشبة المسرح السياسي في أي زمان أو مكان، وبموجب هذا القانون أصبح لدينا قائمة طويلة من الاغتيالات السياسية تتصدرها أسماء لشخصيات عديدة دفعت حياتها ثمن لأفكارها ومواقفها وقناعاتها الخاصة عبر مختلف المراحل المتعاقبة من دويلات التاريخ.
– جون كينيدي: الرئيس الذي لن تنساه أمريكا:
في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 1962 انتهت حياة الرئيس ” جون كينيدي ” بطلقات الرصاص أثناء زيارته لمدينة دالاس، ورغم القبض على من قالوا أنه قاتله ثم مصرع القاتل بعدها بأيام قلائل، إلا أن العالم ما زال بالرغم من مرور قرابة النصف قرن يتساءل عن حقيقة ما حدث ، وضاع دم كينيدي بين قاتله الذي مات بسره . ولكن هذا الكم من الشائعات التي تحاول أن تشير بأصابع الإتهام إلى المخابرات الأمريكية( C.I.A) . وقد اتهمت جهات التحقيق بالإتحاد السوفييتي بإعادة فتح ملف القضية وأجروا تحقيقات سرية خاصة بواسطة K.G.B ، واكتشفوا مفاجآت عديدة .
– الروايات الرسمية : التفسيرات الرسمية تقول بأن الرئيس قُتل بيد قاتل وحيد .
– الشك بداية الحقيقة:
– سجل الباحثون وجود تضارب في تقرير لجنة ” وارين ” الخاصة بالتحقيق وبقيت الحقيقة في خضم المجهول كما بقيت معلومات كثيرة بالخصوص طيّ الكتمان .
– هل هناك قوى خارجية وراء القتل ؟ :
انتهت الحرب الباردة بسقوط الإتحاد السوفييتي، وبدأ فتح الملفات القديمة ، وكان في مقدمة هذه الملفات ملف ” اغتيال جون كينيدي ” التي كان الجميع على يقين بأن الحكومة الأمريكية قد تكتمت وأخفت ملفات بالغة السرية متعلقة بالجريمة، والبعض قال بأن السوفييت لهم يد فيما حدث ، وبدأت تطفو على السطح وتخرج للنور وثائق سرية متعلقة بالقضية، بموجبها أصبح الجميع على يقين بوجود قوى خارجية وراء عملية اغتيال جون كينيدي.
– أصابع الإتهام:
– منذ إعلان وفاة ” كينيدي ” رسمياً بدأت أصابع الإتهام تتجه فوراً للعديد من الشخصيات، فمن قائل إنه الزعيم الكوبي الأشهر ” فيديل كاسترو ” يرد على محاولات المخابرات الأمريكية المتتالية والتي لا تتوقف لاغتياله وتصفية نظامه الحاكم ، خاصة أنه لم يكن قد مضى على حالة التوتر التي أعقبت أزمة الصواريخ الكوبية سوى أسابيع، ومن قائل لا بد أن للسوفييت ضلع في ذلك ، خاصة مع تردد من أنباء عن إختفاء رئيس وزراء السوفييت ” خورتشوف ” عن الأنظار والإخفاق في تحديد مكان تواجده.
– نفي رسمي من كوبا والإتحاد السوفييتي:
– تصاعدت حدة التوتر ثانية بين القوتين العظميين، وأعلن الإتحاد السوفييتي حالة التأهب بين قواته المسلحة، ونفى ” فيديل كاسترو ” علاقته أو علاقة بلاده باغتيال كينيدي، وكان في نفس الوقت ينفي التهمة عن المعارضة الكوبية بعد عملية خليج الخنازير، ففي عام 1963 تعرضت القوى المناوشة للرئيس الكوبي كاسترو للخديعة من قبل الرئيس كينيدي، وكان لفشل عملية غزو كوبا ، ورفض الرئيس كينيدي اقتحام القوات الأمريكية بمثابة طعنة في الظهر اعتبرتها المعارضة موجهة ضدها . وبالمقابل اتصل ” خروتشوف ” بالسفارة الأمريكية نافيا تورط بلاده في عملية الاغتيال، في نفس الوقت الذي ساورت فيه خروتشوف مخاوف من إمكانية تورط أجهزة مخابراته دون علمه في الجريمة، وكانت المخابرات السوفييتية في ذلك الوقت هي أكبر وأقوى جهاز مخابراتي في العالم .
وتعددت أهدافها ما بين قمع أي معارضة داخلية أو خارجية للنظام الشيوعي، وجمع المعلومات والقيام بالعديد من عمليات الإغتيال، والتصفية في كثير من الدول وضمت أكثر من 300,000 عميل موزعين في الإتحاد السوفييتي والعالم ، وكانت في ذلك الحين في أوائل الستينات، تتبع الرئيس السوفييتي ” نيكيتا خروتشوف ” مباشرة. لذا أمر الرئيس السوفييتي مخابراته بالتحقيق في الواقعة، وأن يقدموا له تقريرا، تولاها الجنرال ” أولي كاليجين ” الذي كان عميلا سوفييتيا سريا متسترا بعمله كمراسل لراديو موسكو في أمريكا، لكن ظلت النتائج التي توصلت إليها حبيسة الأدراج في سراديب سرية للغاية لأكثر من ثلاثين عاما ، وقام الرئيس السوفييتي السابق ” ميخائيل جورباتشوف ” بإزاحة الستار عما لديه من معلومات في مقابلة نُشرت على نطاق عالمي واسع بناء على النتائج التي استخلصتها تجارب وتحقيقات ال ” K.G.B ” ويمكننا أن نستنتج من هذه التصريحات المعلومات التالية:
– القاتل:
– حامت الشبهات حول ” لي هارفي أوزويلد ” موظف مؤقت يعمل موظفا في مستودع الكتب المدرسية، وتم اعتقاله بعد ارتكاب الجريمة بساعتين، بعد أن عُثر على البندقية التي ارتكب بها الجريمة وفوراغ المقذوفات التي تطابقها، وبالطبع هذا لا يعني أن ” لي هارفي أوزويلد ” هو الذي قام بإرتكاب الجريمة والضغط على الزناد ، لكنها تشير إلى احتمال قيامه بذلك .
– ملفات ال” K.G.B” :
– وتقول ملفات ال ” K.G.B ” عن أوزويلد إلى فهم كامل لشخصيته، فقد انخرط في الجيش وهو في السادسة عشر من عمره ظنا منه أنه سيقلب حياته رأسا على عقب ، لكنه قُدم للمحاكمة العسكرية مرتين طُرد من الجيش. وفي سبتمبر عام 1959 استُجيب لطلب تقدم به لتسريحه من الخدمة العسكرية في القوات البحرية تحت ذريعة اعتلال صحته ، وبعد شهر وصل إلى روسيا بتأشيرة زيارة ، لم يكن أحد يعلم ما يدور في خلده وفوجيء الروس بطلبه الحصول على الجنسية السوفييتية. ثم فوجيء الروس بطلب أوزويلد حق اللجوء السياسي لدى وصوله إلى موسكو وأظهرت أجهزة التصنت وأجهزة الإستماع التي أُستخدمت بأنه لا يصلح أن يكون جاسوساً على الإطلاق. ويقول ” فلاديمير سيميشاستي ” مقرر لجنة ال K.G.B آنذاك إن الروس سرعان ما قرروا عدم أهلية أوزويلد للعمل التجسسي، فقد كان أوزويلد مجرد مواطن أمريكي ، وأُعطي أمراً بمغادرة موسكو على الفور، لكنه كان عازما على البقاء في البلاد ، فأقدم على قطع شرايين رسغه الأيسر في محاولة للإنتحار، نُقل على أثرها إلى المستشفى مما وضع السوفييت في مأزق كبير لا يحسدون عليه حيث أن موت مواطن أمريكي في روسيا الشيوعية له مردود خطير . وفي غضون أقل من أسبوع أصبح أوزويلد شوكة في خاصرة الروس، وخشية إقدامه على الإنتحار ثانية، قام السوفييت صاغرين بمنحه صفة الإقامة المؤقتة. كان ذلك قرارا سياسيا يهدف الى تفادي فضيحة كبرى عندما يقال إن الإتحاد السوفييتي يمنع الناس من الهجرة إليه، كما أن ذهابه إلى مدينة ما وزواجه من فتاة روسية لم يؤهلانه للإنخراط في المجتمع السوفييتي، فعاد هو وزوجته وابنهما إلى الولايات المتحدة في يونيو عام 1962.
– القاتل يصرخ ” أنا بريء ” :
وفي الوقت الذي جرى فيه اعتقال أوزويلد بتلك السرعة واعتباره القاتل الوحيد ، وتم نقله إلى سجن مدينة دالاس ، فإن هناك كثيرون يعتقدون أن ” لي هارفي أوزويلد ” لا يمكن أن يُقدم على مثل هذا العمل الجريء والتصرف الصعب ، خاصة أنه لم يُعطى فرصة للإدلاء بأقواله ولم يُسمع منه إلا كلمة أنا بريء… أنا بريء ، وهو ما يعزز اعتقاد البعض أن أوزويلد ما هو إلا ستار اُستخدم للتعتيم على آخرين، وأيا كانت الأسرار التي يحملها أوزويلد فقد ذهبت أدراج الرياح بموته .
-مقتل القاتل:
وفي 24/11/1963 أي بعد يومين تماما من اغتيال كينيدي، كان قاتله المزعوم أوزويلد يُنقل تحت حراسة مشددة من سجن مقاطعة دالاس، وفجأة انطلق رجل من بين الحشود ووجه رصاصة قاتلة إلى بطن أوزويلد، وصرخ أوزويلد طالبا النجدة فهو في دائرة البوليس. حيث يجب أن يكون آمناً لكن لم يسعفه أو حتى يحاول أحد أن ينقذه. تمكنت الشرطة من السيطرة على القاتل ، والذي كان يدعى ” جاك روبي ” ويعمل صاحب نادي ليلي ، وتم اعتقاله، بينما نقل أوزويلد إلى المستشفى في دالاس وهي نفس المستشفى الذي نُقل إليها قبل يومين الرئيس كينيدي، حيث مات أوزويلد في غرفة العمليات بعد ساعات من إطلاق النار عليه ، وتم دفنه بعد يوم واحد من اغتياله.
– قاتل القاتل :
– لكن من هو ” جاك روبي “؟ قاتل القاتل ؟ ، كان جاك روبي مواطنا من شيكاغو معروفا بطباعه الحادة، وعلاقاته المريبة مع المافيا التي تمتد من شيكاغو إلى دالاس، تردد على نطاق واسع أن المسدس الذي استخدمه روبي لقتل أوزويلد اشتراه بواسطة شرطي من دالاس.
– مسرح الجريمة:
– جاءت تقارير معاينة مسرح الجريمة لتؤكد أن طلقات الرصاص التي أردت الرئيس الأمريكي كينيدي قتيلا لم يكن مصدرها فقط خلف التل ، بل من النافذة المقابلة للمدرسة، أي من مكان ما في مخزن الكتب وأيضا من الأمام .
– شواهد المؤامرة:
– في جلسات المحاكمة لم يقل أحد : إن الدخان انطلق من أعلى التل قالوا أنهم رأوا دخانا ينطلق من دراجة نارية لحظة الاغتيال تماما وظهرت في هذا الفيلم ، الصور الملتقطة لرأس الرئيس تظهر جرحا في خلفية الرأس يمتد هذا الجرح في اتجاه الرقبة ، ويدل على مؤامرة، هذا الجرح في جلدة الرأس لا يأتي من اتجاه مباشر بل بالملامسة، من زاوية الرأس الخلفية بحيث يمكن مشاهدته، إذا كانت الطلقة كما يقول الجميع من اتجاهات مختلفة فالأرجح أنها من الأمام، وإذا كان أوزويلد أو غيره قد أطلق النار فالمؤكد أنه كان من موقع واحد ، وليس من موقعين مختلفين في نفس الوقت، وهذا يؤكد أنه كان هناك فاعل ثان ، لعله هو الأهم في هذه الجريمة .
– كيف قُتل كينيدي؟
أُصيب كينيدي في الجهة اليسرى من القفص الصدري، ومناطق أخرى كما أفاد الدكتور ” ماكليلاند ” وأطباء آخرون . كما يوضح ذلك مشاهد الفيلم وصور الأشعة والصور الفوتوغرافية، والتي لا تتفق هي وباقي الأدلة المادية مع ما رواه لنا آلاف الأطباء والممرضين ممن رأوا الرئيس في المستشفى، والذين أكدوا أن جرحا عميقا في خلف الجمجمة كان ظاهرا للعيان مع اختلافات الروايات. يقول الدكتور ” روس ” وهو الطبيب المختص لتحديد سبب الوفاة : ” لقد أصيب الرئيس كينيدي بخمس طلقات ، في أعلى الصدر وفي الأسفل وفي خلف المعصم وأمام المعصم، وطرف الرقبة ، لذلك فإن اختلاف موقع الرصاصات لا ينسجم مع طلقتين في الرقبة مع كينيدي حسبما ظهر في الفيلم.
– الحقيقة المنطقية:
– لقد تم التخطيط للإغتيال بدقة شديدة، ولاشك أن التنفيذ قد تم بواسطة أكثر من شخص، ولو افترضنا أن ل ” أوزويلد ” علاقة فعلية ومباشرة بإرتكاب الجريمة، فإنه لابد وأنه كان من خلال علاقة جمعته بمجموعة من رجال أي جهاز مخابرات كان يسعى لقتل كينيدي وأنه تم استخدامه كمجرد أداة ودفعه لتنفيذ الجريمة بهذا الشكل واعدين إياه بأنه سوف يصبح بطلا قوميا وأنهم سوف يقومون بحمايته.
– وُضعت الأهداف في نفس المسافة التي كانت عليها سيارة الرئيس خلال عملية الاغتيال رصاصة على بعد خمسين مترا والثانية على بعد متر ، والثالثة على بعد مئة وعشرة أمتار ، وقد تمكن الرامي بعد القيام بسلسلة من التمارين من إصابة هدفين أو ثلاثة أهداف متوالية في أقل من ست ثوان .
– لجنة وارين بين العجز والفشل :
أجمعت معظم التحليلات السياسية التي رصدت الحادث أن لجنة وارين إما أنها كانت عاجزة عن معرفة الحقيقة أو أنها قررت التكتم عن الحقيقة في ضوء ما اعتبرته يصب في مصلحة الأمة . وأيا كان ما كتب عن الرئيس كينيدي وعن حياته الشخصية فقد قبل أنه كان رئسيا رائعا وكانت لديه رؤى وخطط خاصة بالمستقبل، لا لمستقبل الولايات المتحدة وحدها وإنما للعالم أجمع.
– المافيا ومتهمون آخرون:
– أعيد النظر بعملية الاغتيال واعترافات أوزويلد وقد تم ربط ذلك بالمافيا كما تم ربطه بالقوات الكوبية قوات كاسترو وب ال” K.G.B ” وال ” C.I.A ” وال ” F.B.I” وقوات تحرير فيتنام ، من كل هذه المعلومات تظهر رائحة التآمر ويصر قادة ال K.G.B على رأيهم المتعلق بعملية الاغتيال. أطلق النار على كينيدي قاتل محترف تم التعاقد معه من قبل عملاء فرنسيين وفيتناميين، بعد أن قتل الأمريكيون رئيس جنوب فيتنام ” نورثان ديان ” الذين كانوا يستغلون مركزه لمقاتلة الشيوعيين من خلاله ، ثم تم القضاء على شقيق ديان ” نوردين نيو ” وأدى ذلك إلى قطع إمدادات الأفيون التي كانوا يحولونه إلى هيروين ويشحنونه إلى أمريكا، ومعلوماتنا تفيد بأن المافيا تعاقدت مع الفرنسي ميشيل بيكس لقتل كينيدي.
– بعد حوالي أربعين سنة مازال الغموض محيطاً باغتيال الرئيس كينيدي لكننا نعرف الآن عدة حقائق مهمة وفق استقصاءات ملفات المخابرات ال K.G.B ، وأنه أجرى تحقيقا سريا بظروف عملية الاغتيال حتى قبل توصل أجهزة الحكومة الأمريكية إلى أي استنتاجات. ونعرف أن السوفييت استبعدوا أن أوزويلد هو القاتل كما أدعت لجنة وارين وأنه غير مؤهل لتنفيذ العملية بمفرده. وقد تم اثبات للمرة الأولى أن الرصاصات التي أصابت كينيدي قد تكون صدرت من اتجاه واحد من خلف سيارة الليموزين الرئاسية، ولم تُطلق أي رصاصة من الرابية العشبية المواجهة لموقع الحادث أو أي مكان آخر أمام السيارات. وتم اكتشاف أن جهاز ال K.G.B استنتج رسميا أن مؤيدي الرئيس الفيتنامي تآمروا مع أعضاء المافيا السوفييتية والأمريكية لقتل كينيدي، وقد بدأت الوكالة السرية والقرائن التي بحوزة كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي السابق تضع حدا للجدل القائم وتجدد الأمل لأن المزيد من الدراسات والقرائن التي مازالت طيّ الكتمان ستلقي الضوء على هذه القضية.
– بالرغم من ظهور نظرية أخرى مع كل قرينة فإن مصرع أصغر الرؤساء الأمريكيين سناً ما زالت لغزاً مُحيراً .
بقلم: فاتن الحوسني
باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية