في مجلسه بمدينة العين.. استضافنا المواطن عبدالله الشامسي، 80 عاما، الذي حظي بشرف تقديم القهوة العربية للمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فكان «مقهوي الشيخ زايد» في مجالسه الخاصة والرسمية لأكثر من 50 عاماً، وأمامه عدة صنع القهوة ومستلزماتها، فاحت رائحتها قبل أن ندخل منزله، حيث افترش بو سلطان الأرض وأمامه المحماس والمنحاس والدلّة.
بعد أن رحّب بنا، قلنا له: نحن جئنا لإجراء لقاء مع إنسان عادي محظوظ، عمل في كنف زايد، مهنة فيها معان وقيم ودلالات عن زايد الانسان، أغمض بو سلطان عينيه وكأنه يسترجع شريطا من الذكريات واللحظات، وقال: بعد فنجان زايد ما يستوي فنجان، وبعد وفاة زايد رحمه الله، لم أقدم فنجان قهوة لأي إنسان، لقد ودعت المحماس والدلّة ومجلس زايد منذ اللحظة التي توفي فيها، رحمه الله.
50 عاما كنت شاهداً سمعت ورأيت وما تكلمت، لقد جعل الشيخ زايد، رحمه الله، أهل الامارات يتقهوون من دلّة واحدة، قال، رحمه الله، ذات يوم لجلاسه، إحنا نسوي القهوة في الإمارات ونشربها في القاهرة والشام وبغداد وعمان اسمه زايد وفضله على الناس زايد، تلك هي كلمات عفوية تحدث فيها عبدالله الشامسي، وهو يصارع دمعة طفرت من عينيه، فمثل زايد يبكيه الرجال.
قال: تشرفت أنني عشت بجانب زايد وفي لحظات الصفاء والتجلي، قدمت له الحليب والعسل والقهوة.
يستطرد الشامسي في حديثه وهو يستعرض معدات مهنته بشيء من الحنين لتلك الأيام المليئة بالقصص والحكايات والتحولات، ويقول منتشيا لقد شرب من قهوة ودلّة الشيخ زايد وعلى يديه ملوك وأمراء ورؤساء وشيوخ وشخصيات كبيرة وكثيرة، كنت أقف أمامهم بشموخ أبناء دولة الإمارات وكبرياء رئيسها وصانع مجدها وباني حضارتها الشيخ زايد رحمه الله.
نعود مع بو سلطان للبداية، فهو الآن يبلغ من العمر قرابة 80 عاما، وله من الأبناء والبنين 21 ولدا وبنتا، يعيشون معا في منزل واحد بالإضافة لرعاية بعض الايتام.
يقول بوسلطان: الشيخ زايد رحمه الله، لم يكن رئيسا فقط، لقد كان بيننا ملاكا يمشي على الأرض، الشيخ زايد عمل للصغير والكبير، كان همه إسعاد شعبه، وكان يردد رحمه الله: أريد اسعاد شعبي، لا أريد أن ينام أحد وهو جوعان، لا اريد ان ارى مواطنا بلا سكن او شابا بلا تعليم أو عمل.
وأضاف: من كان يتوقع أن 7 إمارات يتقهوون من دلّة واحدة، لقد وضع يده بيد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، حيث كانت تربطهما أواصر الأخوة العلاقة الاجتماعية الخاصة والمصاهرة، كان الشيخ زايد يقول للشيوخ في الامارات الأخرى عندما يزورهم لإقناعهم بقيام دولة الاتحاد: «الخفيفة عليكم.
والثقيلة على زايد وراشد» كان رحمه الله شعلة من الذكاء وهمّة عالية، فهو «ما يرقد» اذا كان عنده موعد، يصحو باكرا قبل صلاة الفجر .
حيث كان يصلي ركعتين ثم يأتي للمسجد داخل القصر لصلاة الفجر، ثم يدخل مجلسه حيث تكون دلّة القهوة جاهزة، والحليب والعسل جاهزين، ويقدم له الريوق، كان يحرص أن يتناول ريوقه وحتى الغداء مع ربعه من العاملين، ما لم يكن هناك ضيوف أو شخصيات رسمية، كان يقول رحمه الله: «ما أريد أشوف أو أسمع بشخص ينام جوعان».
كانت نظرته للمستقبل بعيده، كان شخصا ذا صفات انسانية فريدة، متواضعا بين أهله محبا لشعبه، قريبا منهم في كل مناسباتهم، يسمع شكواهم يقدم لهم العون والمساعدة من جيبه الخاص، امتلك صفات القيادة والريادة التي تجلت في أفكاره التي قادته لبناء دولة عصرية في زمن يصعب فيه أن تتحقق فيه مثل تلك المنجزات في زمن دول سبقتنا بمئات السنين.
لقد كانت الحياة صعبة جدا، قطرة الماء الحلوة لم نكن نجدها بسهولة فحفر لنا الآبار والأفلاج بيديه كي نرتوي نحن وزرعنا ومواشينا منها، كانت الطرقات وعرة لا يوجد بها عرق أخضر فأحالها إلى واحات وحدائق، كنا عندما نريد ان نذهب لمناسبات خاصة للسلام على الشيوخ نستعير الملابس «الكنادير» من بعضنا البعض.
في تلك المرحلة لم يكن هناك خبراء ومستشارين أو مهندسين، كانت كل الأعمال تنفذ بالخبرة والفطرة وكانت حكمة زايد وخبرته هي الأساس، كل ما نراه الآن من إنجازات وتحولات لم نكن نحلم بها أو نتوقعها، كانت ضربا من الخيال. لقد أكلنا من اليقط والشعير، والمالح يأتينا من البحر للعين من أبوظبي ودبي.
أما عن بداية عمله مع الشيخ زايد، رحمه الله، فيقول: تلك كانت حلما وتوفيقا من الله تعالى، وسعيد الحظ من كان قريبا من الشيخ زايد، فكيف من عمل معه بشكل خاص في لحظات تجليه وفرحه، وحتى في حالات حزنه، رحمه الله، حيث كان شديد التأثر عندما كان يسمع بخبر سيّئ.
ذات يوم من العام 1959، كنا نسكن قريبا من قصر «بيت قصيدة» وهو قريب من منطقة ديوان ممثل الحاكم حاليا، البيوت من سعف النخيل وكلها عشاش وسيداف، حتى حارة المطاوعة والجبل.
سمعنا أن الشيخ زايد رحمه الله، يريد «مقهويا خاصا» ذهبت للقصر والتقيت بشخص اسمه «غريب» رحمه الله، من الظواهر، كان هو المسؤول عن إدارة شؤون أعمال الشيخ زايد «الدائرة خاصة»، قبل المرحوم محمد سالم الظاهري، وأخذنا غريب مباشرة لمجلس الشيخ زايد.
حيث كان عنده حياة بخيت سويدان وبعض الاشخاص من قوم بن حياله وعدد من ربعه وجلاسه، زايد ما عنده هذا أسود وهذا أبيض، الكل عنده سواسية، يحب الإنسان الصريح الصادق الأمين، وبعد أن قمت بإعداد القهوة لضيوف المجلس، أمر رحمه بتعييني مقهوي.
وكان أول أجر تقاضيته 30 روبية، حيث كنا نتعامل بذلك الزمان بالروبية، كان رحمه الله يكلف لكل قبيلة شخصاً موثوقاً من رجالها لمتابعة شؤونها، ليكون صلة الوصل بين أبناء القبلية وكان رحمه الله «ما يرقد الليل»، تراه يتجول بين الناس ويستمع لمشاكلهم.
توفير السكن
يقول بو سلطان: ذات يوم كنا ذاهبين إلى قصر المقام في مدينة العين، فوجدنا امرأة تنتظر الشيخ زايد، رحمه الله، وهي لا تعرفه، فأوقف السيارة، وسألها عن حاجتها، فقالت له، أريدك تبلغ الشيخ زايد أنني أسكن بيت بالإيجار وليس لي مورد لدفع الإيجار، فترجل من السيارة واتصل بمدير بلدية العين، وقال له كيف يوجد مواطن عايش وساكن بالإيجار، واستدعى لجنة توزيع المساكن الشعبية وحقق معهم.
وقال لهم «أنا أعطيتكم أمانة وعليكم صيانة الأمانة» فأمر بتخصيص منزل وراتب شهري لها ولأسرتها، وكانت البيوت الشعبية توزع على المواطنين حسب مواقع تواجدهم فكل قبيلة أو أسرة تجمع نفسها في مكان واحد من أجل الحفاظ على العلاقات الاجتماعية، وكان يزور بعض الأشخاص عندما يستقرون في منازلهم ليطمئن عليهم، فكان يشاركهم افراحهم وأحزانهم.
كان الشيخ زايد، رحمه الله، يسألني أحيانا ماذا أريد، فكنت أحمد الله وأشكره وأقول له خيرك زايد، وذات مرة لاحظ أنني أدخن كثيرا، وقال لي لك مكافأة 10 آلاف درهم إذا تركت المدواخ، حينها لم يكن في جيبي درهم واحد، فقلت له طال عمرك ما أقدر إلا إذا كان هذا أمر، فضحك رحمه الله. وأضاف بو سلطان: يسألونني أحياناً ماذا قال الشيخ زايد لضيفه الرئيس فلان، كنت أقول لهم، شغلتي مقهوي لا اسمع ولا أتكلم، وتلك من أهم صفات حفظ الأسرار.
عندما وصلنا إلى نهاية الحديث، جمع بو سلطان معدات القهوة وهو يداري في العينين دمعة، وقال: «إنه بعد أن علمت بوفاة الشيخ زايد رحمه الله، انهيت مهمتي وتقاعدت، ولم أقدم بعدها فنجان قهوة لأي شخص».
التزام بالقانون
أكد المواطن عبدالله الشامسي أن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان حريصاً على تطبيق القانون على الجميع، ولا يسمح بتجاوزه من أي أحد مهما كانت الأسباب.
وكان هذه الثوابت عند المغفور له لا تقبل الجدل والمساومة، وكانت هذه تعليماته، رحمه الله، لرئيس الدائرة الخاصة محمد سالم الظاهري، ولذلك لم يكن يسمح أبداً لأي أحد بأن يتجاوز القانون مهما كان، بل إنه رحمه الله لم يكن يسمح ببناء طابوقة واحدة من غير رخصة.
المصدر – صحيفة البيان