لم تكن قصص صناع الأمل الخمسة مجرد تجارب حياتية بسيطة، بل كانت بجدارة حكايات أبطال حقيقيين، ملهمين، نذروا أنفسهم لأوطانهم ولأبناء مجتمعاتهم من خلال تبني قضايا إنسانية ومجتمعية ملحة، ساعين إلى الارتقاء بحياة الإنسان، من منطلق أن لا قيمة تعلو على قيمة الإنسان والإنسانية.
وشهد الحفل عرض قصصهم من خلال فيديوهات مؤثرة لخصت تجربة كل منهم، وسط تفاعل الجمهور مع هذه القصص ذات البعد العاطفي والإنساني.
محمود وحيد.. إنقاذ الكرامة الإنسانية
لم يكن الشاب المصري محمود وحيد مستعداً للمشهد الذي رآه ذات نهار وهو يسير في أحد شوارع العاصمة المصرية القاهرة: رجل نائم على الرصيف.. بملابس رثة، وسط جروح متفرقة في جسده الذي ينهشه الدود. قساوة المشهد فاقت قدرته على الاحتمال. كان ذلك في عام 2014.
لم يشأ محمود أن يترك الرجل على هذه الحالة، فقرر أن يأخذه إلى أحد المستشفيات، وهي مهمة غير سهلة، إذ عانى قبل أن يجد مستشفى يوافق على استقبال «رجل الشارع»، وعانى أكثر قبل أن يجد داراً تقبل إيواءه كمشرد، مسن، فاقد الهوية.
يومها، قرر وحيد أن يتحرك بعدما وقع على العديد من الحالات المشابهة، لمشردين مسنين، وجدوا أنفسهم في الشارع، يتوسدون الأرض العارية ويتلحفون بالسماء، يتناوب على أجسادهم التي استوطنها الهزال والمرض والبؤس برد الشتاء القارس وشمس الصيف الحارقة. ومنهم من يلاقي حتفه، جوعاً أو مرضاً أو يأساً، قبل أن تمتد يد العون لانتشاله.
بمساعدة عدد من أصدقائه ومعارفه ومن خلال تبرعات فردية ومساهمة عدد من المتطوعين، أسّس محمود حميد مؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان»، كدار شاملة لإيواء ورعاية المشردين الكبار والمسنين، الذين يتم انتشالهم من الشارع وتوفير كل أشكال الرعاية الطبية والنفسية لهم، وإعادة تأهيلهم لسوق العمل، لمن يرغب منهم، إلى جانب البحث عن أهاليهم وإرجاعهم إلى أسرهم.
منذ إطلاق مؤسسة «معانا لإنقاذ إنسان» قبل ثلاث سنوات، تم افتتاح داري مأوى تابعة للمؤسسة، ويجري العمل حالياً على دار ثالثة.
وخلال تلك الفترة، ساعدت المؤسسة أكثر من 1000 مشرد، معظمهم من كبار السن، سواء بإيوائهم أو بعلاجهم أو بالإسهام في إرجاع البعض منهم إلى أهاليهم، حيث نجح حتى الآن في لمّ شمل 85 مشرداً مع أسرهم.
ويعمل مع محمود مجموعة من الشباب المتطوعين، كما يدعمه أكثر من 250 ألف متطوع على وسائل التواصل الاجتماعي، يساعدونه على الوصول إلى المشردين أو توفير معلومات عنهم وعن أهاليهم. وتضم المؤسسة أيضاً مشرفين وممرضين يتابعون حالة النزلاء على مدار 24 ساعة.
كما يتلقى المسنون رعاية نفسية وطبية متخصصة، حيث يزور طبيب نفسي الدار مرة في الأسبوع، إضافة إلى الاستعانة باختصاصي علاج طبيعي، وأطباء من مختلف التخصصات لمتابعة الحالة الصحية العامة للمسنين.
صانع الأمل محمود وحيد لم يرضَ أن تهان كرامة الإنسانية، فتحرك في داخله الإنسان. طموحه هو أن يكبر مشروعه ليتسع لكل المشردين الذين لا مأوى لهم، بحيث لا ينام مصري في الشارع.
فارس علي.. الفارس الذي حارب الجوع
الجوع كاسرٌ وقاهر.. يطحن الجسدَ ويذلّ النفس.. حقيقة أدركها صانعُ الأمل العربي فارس علي، من السودان، حين وقع بصره ذات يوم على تلميذة جائعة تجمع فتات الخبز، مما كانت تقتات عليه الأغنام وتنقعه بالماء قبل أن تأكله. هذا المشهد كان كسكين غرُست عميقاً في قلبه.
لكن الجوع ليس ظاهرةً عابرةً أو محصوراً ضمن حالات فردية؛ فآلاف الأطفال والمراهقين يتسربّون من مدارسهم في العديد من قرى ومناطق السودان بسبب الجوع.. يخرجون من بيوتهم، التي استوطن فيها الفقر وضيق ذات اليد، جياعاً دون وجبة فطور أو ساندويشة تسند قاماتهم الهشّة، ثم يقضون النهار على مقاعد الدرس بالكاد يستطيعون استيعاب كلمة مما تُقال. والسؤال هو: كيف تتوقع من طفل أو أي شخص أن يقدم ويعطي ويبدع وينجز بمعدة فارغة؟ سؤال دفع فارس كي يقوم بشيء.
كان ذلك من نحو ثماني سنوات. البداية كانت من بيت والدته التي أعدت له مجموعة من الساندويشات، وسرعان ما بدأ المجتمع المحلي من حوله يتبرع بالطعام، ليجمع فارس الساندويشات ويقوم بتوزيعها على عدد من تلاميذ الأطفال في الصفوف المدرسية، متنقلاً من مدرسة لأخرى بسيارته، ليكون ذلك نواة مبادرته التي أطلقها «التعليم مقابل الغذاء».
لم يكتف فارس بإطعام الأطفال، الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة، مكابدين الجوع برغم كل شيء، بل استهدف البطون الخاوية لمئات الأطفال المشردين في الشوارع الذين تركوا بيوتهم وهجروا مقاعد الدراسة بسبب الفقر والبؤس، ليُسهم في دمجهم في المجتمع وإعادتهم إلى التعليم، إيماناً منه بأن التعليم هو أكبر حصانة لهم من ويلات الشارع.
ومن عشرين ساندويشة انطلق بها فارس ليطعم عدداً من الأطفال الجياع، ها هو مشروعه اليوم يوفر الساندويشات لأكثر من 35 ألف طالب وطالبة يومياً في 132 مدرسة. تعمل المبادرة تحت مظلة فريق «مجددون» التطوعي الذي أسسه فارس، حيث انضم إليه عدد متزايد من المتطوعين، تحت ظروف قاسية، مدفوعين بما يقومون به بشعورهم أنهم يصنعون شيئاً من أجل مستقبلهم بلدهم.. السودان.
خلال ثماني سنوات، قدمت مبادرة «التعليم مقابل الغذاء» أكثر من 40 مليون ساندويشة مجاناً للطلاب، كما أسهم فارس وفريقه الذي يناهز 1200 متطوع في توفير مياه للشرب في 100 مدرسة. وبمساعدة عدد من المنظمات الإنسانية، تمكن فريق فارس من صيانة نحو 20 مدرسة إلى جانب توفير مدرسة في الشارع (في الهواء الطلق) بالقرب من مقر عمل فريق فارس في الخرطوم متاحة لأي طفل أو مراهق مشرد يبتغي العلم واللقمة التي تسد الجوع.
بفضل فارس وفريقه، ثمة أطفال في السودان باتوا ينهضون كل صباح يتوقون للتعلم، يسرعون إلى مدارسهم، تسبقهم أحلامهم الجميلة للمستقبل، ويعرفون أن الجوع لن يعرف طريقه إلى بطونهم هذا اليوم.. سوف يأكلون ويشعبون وينتظرون الغد بشوق أكبر.
نوال مصطفى.. نصيرة السجينات وأطفالهن
موقف واحد كان كفيلاً بأن يغير حياتها.. ومعها حياة الآلاف من النساء؛ فقبل نحو ثلاثين عاماً، زارت الصحفية والكاتبة الشابة نوال مصطفى سجن القناطر للنساء، في مدينة القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية بمصر، كي تعدّ تحقيقاً صحفياً.. كانت تأمل بأن ترصد واقع النزيلات في السجن. لم تتخيل يومها أن يستقبلها في باحة السجن مجموعة من الأطفال الرضع، وقد «حُبسوا» فعلياً مع أمهاتهن السجينات في ظل عدم وجود أحد أو جهة ترعى الصغار.
تعرفت نوال إلى العديد من السجينات وحكاياتهن «المعجونة بالدموع»، كما تصفها، ومعظمهن «غارمات» دخلن السجن بسبب ديون مالية مترتبة عليهن وعلى أسرهن من جرّاء الفقر والجهل بالقوانين واستغلال الآخرين لهن، منهن حبالى، ولدن صغارهن في السجن، في مأساة يبدو أنها ليست استثناء.
لكن المشكلة لم تكن تتوقف عند هذا الحد، فحتى حين تسدد السجينة ديونها أو تقضي فترة محكوميتها، فإن أبواب السجن تُفتح على سجن أكبر.. سجن المجتمع الذي ينبذها، بعدما اقترنت بها «وصمة» السجن.. وهي وصمة تلازمها وتلازم أسرتها لتصبح حياتها جحيماً، وتسد في وجهها سُبل العيش الكريم.
هنا عرفت نوال، وهي كاتبة وإعلامية، أن القدر اختارها لهذه القضية، لخدمة هؤلاء النساء وأطفالهن. فبادرت بالخطوة الأولى؛ حيث أسّست، بالتعاون مع مصلحة السجون، مركزاً داخل سجن القناطر لتأهيل السجينات وتعليمهن بعض المهن والحرف اليدوية كي تعينهن على كسب رزقهن داخل السجن وخارجه.
ولما كان أطفال النزيلات قضية ملحة، تستدعي تحركاً عاجلاً، أسّست جمعية «رعاية أطفال السجينات» بهدف تسليط الضوء على واقع الأطفال الذين يعيشون داخل أسوار السجن مع أمهاتهن النزيلات، ومتابعة أوضاعهم وتوفير احتياجاتهم، من ذلك استصدار كل الأوراق القانونية والثبوتية الخاصة بهم كشهادات الميلاد.
بالنسبة إلى نوال، فإن مساعدة السجينات يجب أن تتخذ طابعاً يتسم بالديمومة والاستمرارية، من خلال مشاريع وحملات لا توفر لهن مصدراً للرزق فحسب، وإنما تسهّل دمجهن في المجتمع.
من بين المبادرات والبرامج الكثيرة التي تبنّتها نوال تأسيس حاضنة أعمال للسجينات السابقات، تستقبل النزيلات كي يتدربن من خلالها على مهنة أو حرفة تمكنهن من إعالة أسرهن وأطفالهن. كما أقامت العديد من ورش الخياطة والتطريز داخل السجن لدعم النزيلات أثناء قضاء محكوميّتهن، وأطلقت حملة «سجينات الفقر» لدعم الغارمات وتسديد ديونهن.
وحتى اليوم، أسهمت نوال في إطلاق سراح أكثر من 1000 سجينة غارمة، كما أسهمت في تأسيس أكثر من 1000 مشروع صغير للسجينات السابقات، ودرّبت أكثر من 500 سجينة سابقة على بعض الحرف والمهن لتساعدهن على كسب قوتهن.
ومن إنجازاتها الإنسانية أيضاً تقديم مساعدات عينية بصفة مستمرة لأكثر من 2500 أسرة من أسر السجينات، إضافة إلى إسهامها في علاج 500 طفل من أطفال السجينات خارج السجن.
والتكفل بالمصاريف المدرسية لـ500 طفل من أطفال السجينات، وغير ذلك من مشاريع وبرامج وحملات تسعى إلى إحداث فرق جوهري في حياة نساء وجدن أنفسهن في مهب رياح الحاجة، وقد كُتب عليهن مواجهة عار السجن داخله وخارجه.. وها هن اليوم، بفضل صانعة الأمل نوال، يجدن باب الحياة الكريمة مفتوحاً لهن، وقد تركن ماضي السجن خلفهن.
منال المسلم.. صناعة الأمل من الألم
كيف تصنع من المأساة والحزن والفقد المرير أملاً وحياة؟ هل يمكن أن يكون الموت سبباً في منح الآخرين حياة أفضل؟
هذا ما اكتشفته صانعة الأمل منال المسلم من الكويت. منال، أو «أم دانة» كما تُحبّ أن تُلقَّب. لم تكن تدري «أم دانة» حين كانت تقضي إجازة ممتعة على شاطئ البحر أن حياتها سوف تنقلب رأساً على عقب، وأنها ستُصاب بفقد سيحفر جرحاً غائراً في قلبها، حين لقيت ابنتها دانة، ذات الخمسة أعوام، حتفها غرقاً. كان ذلك في عام 2013. يومها، شعرت منال أن حياتها انتهت. لكن من وسط الألم، أزهر في قلبها أمل.. اسمه دانة.
أسست منال «فريق دانة التطوعي» لمساعدة النازحين السوريين داخل سوريا واللاجئين منهم في عدد من دول اللجوء، من خلال توزيع المساعدات العينية والإغاثية وتوفير مختلف الاحتياجات والمستلزمات الغذائية والعلاجية، إلى جانب توزيع الخيم والملابس والمدافئ والبطانيات وغيرها.
وحتى اليوم، نظم الفريق خمس حملات تطوعية إغاثية تحت اسم «روح الأمل» لمساعدة النازحين السوريين، حيث تم توزيع أكثر من 330 ألف سلة غذائية، وتقديم الدعم المباشر لخمسة آلاف طفل، إلى جانب تقديم الدعم الطبي لأكثر من 82 ألف مريض، وتقديم المساعدات لأكثر من 52 ألف أسرة. وفي المجمل، استفاد من حملات «روح الأمل» استفاد منها أكثر من 340 ألف شخص.
صحيح أن دانة رحلت، لكن هناك مليون دانة.. كما تقول منال. وكل طفل تسهم منال في رسم البسمة على وجهه أو رفع المعاناة عنه، تشعر بأنها استعادت دانة من خلاله.
سهام جرجيس.. من ملكة الجمال إلى ملكة القلوب
على الرغم من أنها تخطت الخامسة والسبعين من العمر، فإن سهام جرجيس تعمل بحماسة الشباب وطاقتهم واجدة في العطاء حياة.. لها ولغيرها. ابنة بغداد التي تُوجت ملكةً على عرش الجمال في مطلع ستينيات القرن الماضي، لا تزال تحنّ إلى الأيام الجميلة التي عاشتها في شبابها في العراق. لكن العراق اليوم جريح.. وجراحه كثيرة، وسهام، ابنة العراق الحبيب، قررت ألا تترك بلدها ينزف وشعبها يعاني دون أن تتحرك.
من خلال جهد ذاتي بحت وبمساعدة أصحاب الخير الذين تتواصل معهم، تتبنى سهام العشرات من المبادرات والحملات الإنسانية التي تسعى إلى التخفيف من معاناة أبناء وطنها، فنظّم العديد من الحملات الإغاثية لتوزيع المساعدات على المحتاجين والنازحين في العديد من المخيمات في العراق، وتحديداً في محافظتي الموصل والأنبار.
وتشمل هذه المساعدات الإغاثية توزيع الحزم الغذائية والملابس والأدوية ومهود الأطفال وبرادات الماء صيفاً والمدافئ شتاء.
وتحرص سهام على أن تتحرى بنفسها عن الحالات الإنسانية التي تصلها كما تتحرى عنها وعن احتياجاتها بدقة، موثقة أنشطتها الإنسانية ومبادراتها الخيرية على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
كذلك، تحرص سهام على الإشراف على توزيع هذه المساعدات، متفقدة أوضاع النازحين، الذين باتوا يستقبلونها بترحاب منتظرين الخير على يدها، هي التي باتت اليوم تتربع على عرش قلوب الأطفال والنساء والرجال في بلد أثخنته الجراح.
تقيم صانعة الأمل سهام في دولة الإمارات التي قدمت إليها مع عائلتها في عام 2005، واجدةً في حياتها الجديدة في الإمارات فرصة لمد جسور العطاء مع بلدها الذي لم تغب صورته في قلبها لحظة. فمنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أسهمت جميلة بغداد من خلال مشاريعها ومبادرتها في التخفيف من معاناة أكثر من 100 ألف شخص.
كما أسهمت في علاج أكثر من 200 حالة مرضية تعاني أمراضاً خطرة كالسرطان أو الفشل الكلوي والكبد وغيرها، وذلك داخل العراق وخارجه. كما عملت على بناء وترميم أكثر من 15 داراً للأرامل والأيتام، إلى جانب بناء صفوف لذوي الاحتياجات الخاصة وأطفال التوحد في الأنباء، وإنشاء معمل للخياطة في أحد مخيمات النازحين.
وإنشاء محلات تجارية صغيرة لبيع المواد الغذائية كي تكون مصدر رزق للأرامل، وكفالة أكثر من 75 يتيماً، وما إلى ذلك من مشاريع وبرامج تغطي مختلف أنواع الاحتياجات في بلد كالعراق يواجه الموت والخراب كل يوم.
طريق العطاء ليست سهلة بالنسبة إلى سهام. وكثيراً ما تجد صعوبة في تأمين احتياجات كثيرة للناس، ومع ذلك لا تيأس وتصرّ على مواصلة صناعة الأمل، مؤكدةً أنها نذرت حياتها لبلدها وأبناء بلدها حتى آخر يوم من عمرها.