ربما أصبحت مؤخرا أعود بالزمن للوراء كثيرا , لعله حنين ممزوج بالشوق الى ذكريات لا تمحى من ثنايا الذاكرة ولا يمكن لأنين الزمن أن ينساها , بل ويرفض قلبي من كل أعماقه أن يبيت ليلة دون السفر الى ذاك الزمان الذي يقوده الحنين الجارف الى الماضي و الطفولة البريئة في أسمى معانيها , وبعد هذا الغياب الطويل , أعود اليوم بمقالي وفي الحقيقة فهو ليس بمقال جديد , فعنوان و فحوى مقالتي اليوم تعود لأول مقالة كتبتها في حياتي عندما كان يبلغ عمري الثانية عشر ربيعا، تزامنا مع الثورة المعلوماتية الضخمة الذي بدأ العالم ان يشهدها منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، ولعلني وفي هذه اللحظة بالذات يداعب ذاكرتي بضع جمل وعبارات تضمنها مقالي ذاك والمعنون بنفس العنوان، ويذكرني بالزمان والمكان الذي قررت فيه أن أمسك قلمي لأول مرة وأشرع في الكتابة، ولكني اليوم أملك من الرفاهية مثلي مثل كل سكان القرن الواحد والعشرين ما يجعلني أستغني عن قلمي الغالي، فاليوم أضحت كبسة الزر او اللمس أغلى بكثير من خطوط قلم هزمته الشيخوخة مبكرا.
لعلنا شهدنا على التضخم المعرفي و المعلوماتي الحادث مؤخرا, ثورة طالت كل الأصعدة والمجالات , بدأ من الزراعة والصناعة حتى التعليم والتربية، أضحى كل شيئ بلا معنى وبلا قيمة، بل وفقدنا معان كثيرا أمتلأت بها جوارحنا و ذكرياتنا القديمة، اذكر جيدا عند كتابتي لمقالي الاول هذا. كلمات جدتي التي قالت لي ربما ما نشهده اليوم من تقدم معلوماتي هائل يا صغيرتي لن يعادل ربع ما سيشهده العالم من ثورة تكنولوجية شاملة خلال العشر سنين القادمة. كم كنت محقة يا جدتي الحبيبة، أصبحت حياتنا الآن محصورة داخل شاشات هائلة بل و باتت معلوماتنا الشخصية ملك الجميع ويكأنها خلقت للغير وليس لنا، اين أسس التواصل الجسدي والاجتماعي الحقيقي؟ هل أغنتنا ما تقدمه لنا الشبكات العنكبوتية من خدمات عن زيارة وود من نحبهم ؟ كم لحظة أضعناها أمام تلك الشاشات البلهاء لنتقصى عن بعض الحقائق و اي حقائق تلك ؟ أخبار الغير وانتهاك خصوصايتهم واوقاتهم الحميمة . كم خبر تناقله العامة يكاد يخلو من معلومة واحدة صحيحة تخص اي مجال كان، في الحقيقة ليس الغرض من مقالي هذا هو الوقوف ناكرة لجميل التكنولوجيا التي لولاها ما كنتم لتقرأون مقالي هذا الآن. وانما الهدف الحقيقي منها هو التوعية بأهمية التقليل من تأثير التكنولوجيا البالغ الأثر في حياتنا، حيث أشارت بعض الدراسات ان الانسان يقضي جزءا كبيرا لا يستهان به من عمره أمام شاشات الهاتف بغض النظر عن ما اذا كان الهدف من ذلك مفيد أم لا، بل في المقابل ان عدت بذاكرتك قليلا لاخر جمعة كنت فيها مع العائلة، سيلتقط ذهنك صورة اعتدنا على رؤياها جميعا في هذه الأيام، صورة تحوي أطفالا يلعبون ويتبادلون هواتفهم الخلوية، ولوحة أكثر تعقيدا لأمهات يهملن العناية بهؤلاء الاطفال، وليس الأمر في الحقيقة حكرا على الامهات فقط , ولكن كذلك الاباء على حد سواء.
وبكل أسف خلق كل منا عالمه الخاص داخل آلة استعبدت عقولنا الضعيفة و أصبحنا نلهث الى شراء كل ما هو جديد فيها دون النظر الى أبعاد هذه القضية، أصبحنا كالروبوت الذي يتلقى أوامره من سيده لينفذها فورا دون أدنى تفكير، هل فكرنا يوما عن كم الأخطار الناجمة عن تعرض أطفالنا يوميا لتصفح هذه المواقع وما يترتب عليه من من إنفصال إجتماعي و عزلة اجتماعية ؟ هل فكرنا يوما عن كم الأخطار والأفكار التي تحاول ملايين المواقع الالكترونية نشرها و بثها بين الشباب الذي يفتقر لأساس ديني سليم وقوي ؟ أعتقد ان كل ما نشهده من تطورات ضخمة حولنا انما هو نابع عن خطة محكومة و مؤامرة بالغة الدقة، هدفها جذب عقول الشباب و دحض كل ما فيها من ابداع بغية الاعتياد على الاعتماد على الالة ومفهوم الالة الذي جعلنا نتقاعس عن أداء مهامنا الاساسية كبشر.
لن أخوض في الحديث عن المؤمرات الخطرة التي تحاك للإسلام وللعرب أجمع، لأن هناك االعديد من الكتب والعلماء والمتخصصين الذين كشفوا النقاب عن العديد من الأهداف الدنيئة المرجوة من غزو العالم بالتكنولوجيا الحديثة و الذي ترنو له بعض الانظمة على مستوى العالم تحت مسمى” العالم أصبح قرية صغيرة ! ” وما علينا نحن سوى رفع أيدينا للسماء والتصفيق بحرارة لهذا الإنجاز غير المسبوق، ولكن هدفي الحقيقي من هذه السطور المتواضعة هو اعادة النظر في التغيير الحادث على صعيد الحياة الاجتماعية الناجمة عن هذه الثورة المعلوماتية الضخمة، وعلينا ان نتوقف مع أنفسنا للحظات بغية التفكير مليا في حقيقة مرور الوقت والعمر سريعا، وان تلك الهنيهة بالغة الصغر التي تمر علينا لن تعود الى ميلادها مرة اخرى، حينها فقط سندرك حتما ان ما أضعناه من لحظات ثمينة كان من الأفضل ان تقضى مع من حولنا مع من سافروا وغابوا ورحلوا، وكثيرا ما نتمنى العودة للحظة معينة من الزمن لنتوقف عندها، ويتوقف كل شيئ حتى تصدق أذهاننا البائسة اننا وحدنا اليوم عاريين من ذكريات ولحظات كان بإمكاننا تشكيلها على أفضل وجه واستغلالها جل الاستغلال ولكن بعد فوات الاوان.
لا شك ان التقدم المعلوماتي ضرورة وحقيقة لا يمكن نكرانها ولا الهروب منها ولكن التقنين والتقليل والتعقل في استخدام وسائل العولمة و الاستخدام الصحيح لمصادرها المختلفة هو الحل الأمثل، وعلينا انعاش عقولنا للتفكير في مستقبل هذا الجيل الجديد بشكل أكثر واقعية وموضوعية، ذلك الجيل الذي نجهل تماما ما سيكون عليه بعد بضع سنين، فلما لا نفكر في التغيير و التقنين الحقيقي الذي سيعود علينا بالكثير ؟ فاليوم بكبسة زر واحدة وانت تحتسي قهوتك من البن البرازيلي الفاخر تستطيع الحصول على ملايين المعلومات عن اي فكرة تخطر ببالك، ولكن على الجانب الاخر التقنين و التعقل في استخدام هذه المصادر مطلوب وبشدة وهو الهدف الأساسي من مقالي هذا، فكل شيئ حولنا أخضع للبشرية كلها بكبسة زر !
بقلم: روان سالم – (مصر)