الأربعاء , 18 شوال 1446 هـ , 16 أبريل 2025 م   |  آخر تحديث أبريل 9, 2025 , 4:25 ص

أوروبا تستعد لمعركة نظام المدفوعات العالمي


أوروبا تستعد لمعركة نظام المدفوعات العالمي



وفقاً لما ذكره فيليب لين، كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي في خطاب حديث له، فإن إطلاق البنك المركزي الأوروبي «اليورو الرقمي» أصبح أمراً حتمياً.

وفي وقت سابق من الشهر الماضي، تحدث باسكال دونوهو، رئيس مجموعة وزراء مالية منطقة اليورو، عن «مستوى متزايد من الإلحاح» في المضي قدماً نحو عملة رقمية.

انتبهوا؛ فرغم انشغال أوروبا حالياً برسوم دونالد ترامب الجمركية، إلا أن بعض الأوروبيين متنبهون للجبهة الجيو-اقتصادية التالية: وهو دفع أمريكا تجاه هيمنة الولايات المتحدة على نظام المدفوعات الدولية. وهم محقون في قلقهم، فمن بين سيل الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب، هناك أمر يروج لاستخدام «العملات المستقرة» التي يصدرها القطاع الخاص والمقومة بالدولار على نطاق عالمي. وهناك كل الأسباب للاعتقاد بأنه سيستخدم عضلاته في الدفع وراء هذا.

فإدارته مكدسة بشخصيات منخرطة بعمق في تكنولوجيا المدفوعات، مثل إيلون ماسك، الذي كانت انطلاقته الكبرى من خلال «باي بال»، وهوارد لوتنيك، الذي تربطه علاقات مع شركة «تيثر» المصدرة لعملات مستقرة. ورغم أن هؤلاء المبتكرين لا يتفقون مع النخب الحاكمة التقليدية في كثير من الأمور، إلا أنهم يتشاركون الإيمان بالقوة والمكاسب التي يمكن تحقيقها من خلال الحفاظ على السيطرة الأمريكية على نظام المدفوعات العالمي.

يشهد نظام المدفوعات العالمي حالياً تحولاً هائلاً، تدفعه أسباب سياسية وتقنية على حد سواء. فقد أدى تسليح النظام المالي القائم على الدولار، مثل قيام الولايات المتحدة بقطع وصول خصومها إلى نظام «سويفت» لتحويلات البنوك، إلى إطلاق جهود حثيثة للبحث عن بدائل. وتشمل الأفكار إنشاء عملة ونظام مدفوعات تديره دول «بريكس» ولخدمتها. كما توفر التقنيات الحديثة، مثل العملات المستقرة، بديلاً فورياً منخفض التكلفة، ويعمل على مدار الساعة بدلاً للنظام التقليدي المرهق والمكلف والبطيء، المعروف باسم «المراسلة المصرفية».

لذلك، فإن المعركة للهيمنة على نظام المدفوعات المستقبلي قد انطلقت بالفعل، والولايات المتحدة عازمة على الفوز. ورغم أن الجمهور الأوروبي قد لا يدرك أبعاد المعركة بعد، إلا أن المسؤولين في منطقة اليورو يدركون تماماً أن هذه المعركة على السيطرة التقنية على الاقتصاد هي معركة لا يجب للاتحاد الأوروبي أن يخسرها.

وهنا يكمن الدافع الأساسي وراء مشروع «اليورو الرقمي»، وهو عملة رقمية رسمية يصدرها البنك المركزي، يمكنها، إذا أُطلقت بكفاءة وسرعة كافية، أن تنافس جاذبية العملات المستقرة المقومة بالدولار أو حتى تتفوق عليها.

من دون هذا المشروع، ستواجه أوروبا مخاطر معروفة منذ سنوات، بدءاً من مقترح «ليبرا» المشؤووم الذي طرحته شركة فيسبوك عام 2019 لإطلاق عملة رقمية. بل إن القلق الأوروبي يعود إلى ما قبل ذلك، حينما فرض ترامب عقوبات على إيران، فاكتشفت أوروبا أنها غير قادرة على التصرف بشكل مستقل، نظراً لصعوبة تنفيذ المدفوعات التجارية من دون المرور ببنوك معرضة للمنظومة المالية الأمريكية.

والحقيقة أن منطقة اليورو تعتمد بشكل مقلق على أنظمة الدفع الأمريكية. فوفقاً للبنك المركزي الأوروبي، يُعالَج نحو ثلثي عمليات الدفع بالبطاقات داخل منطقة اليورو عبر مزودي خدمات غير أوروبيين. كما أن 13 من أصل 20 دولة تعتمد اليورو لا تمتلك أنظمة وطنية لمدفوعات البطاقات. وفي تلك الحالات، كما عبر أحد المصرفيين المركزيين الأوروبيين: «عندما تذهب لشراء الحليب، فإن وسيلتك الوحيدة إما النقود الورقية، أو بطاقة فيزا أو ماستركارد».

وهذه التبعية تتكرر أيضاً مع الانتشار السريع لتطبيقات الدفع عبر الهواتف الذكية.

أما إذا تمكنت العملات المستقرة الأمريكية من تحقيق انتشار واسع، فإن الخطر الأكبر يتمثل في «الدولرة الرقمية»، أي أن تبدأ المنصات التجارية بتشجيع المستخدمين على تسعير المنتجات، وتنفيذ المعاملات، والاحتفاظ بالأرصدة باستخدام هذه الرموز الرقمية المقومة بالدولار.

وهذا من شأنه أن يقوض قدرة البنوك المركزية على التحكم في السياسة النقدية المحلية. ويتجاهل كثيرون هذه الحقائق عندما يسخرون من مشروع «اليورو الرقمي»، ويدعون أنه «حل يبحث عن مشكلة». لكن المؤشرات تدل على أن عدد المشككين في تراجع مستمر. فحتى الآن، يبدو مشروع «اليورو الرقمي» دفاعياً بطبيعته، فالحاجة أم الاختراع، ومع ذلك فهو تطور مرحب به.

لكن ما تأخرت أوروبا في إدراكه هو المبررات الإيجابية لهذا المشروع. وأحد أبرز هذه المبررات يتمثل في الفكرة البسيطة القائلة إنه إذا تمكنت أوروبا من تطوير تكنولوجيا محلية للدفع الرقمي، تكاد تكون مجانية، لتحل محل مزودي خدمات الدفع الأجانب الذين يفرضون رسوماً، فإن ذلك يعادل فعلياً إزالة «ضريبة على المعاملات الاقتصادية» داخل منطقة اليورو ومعها.

كما يمكن لليورو الرقمي أن ينافس العملات المستقرة المقومة بالدولار في المعاملات الدولية. ويقوم البنك المركزي الأوروبي حالياً بدراسة كيفية ربطه بعملات غير اليورو. لكن هذا الجهد لا بد أن يمضي أبعد من ذلك.

فالنسخة الموجهة للأفراد، والتي يجري التفكير بها حالياً تنص على وضع حد منخفض نسبياً لحجم المبالغ التي يمكن الاحتفاظ بها في محافظ اليورو الرقمي، وذلك لتجنب سحب الأفراد ودائعهم من البنوك، لكنها لن تكون ملائمة لتلبية احتياجات قطاع الأعمال، خصوصاً فيما يتعلق بالمدفوعات السلسة عبر سلاسل الإمداد العابرة للحدود.

لكن الفائدة الأكثر أهمية، هي أن البنية التحتية الرقمية للعقود الرقمية الآلية، مسارات الدفع التي يضمن البنك المركزي سلامتها، تخلق اقتصاداً تكنولوجياً جديداً كلياً، ويمكن تشبيه هذا التحول بما أحدثته الهواتف الذكية حين مهدت الطريق لاقتصاد التطبيقات.

وبعيداً عن مسألة الاستقلال المالي، فإن هذه فرصة ثمينة أمام أوروبا لسد الفجوة التي تفصلها عن رواد الابتكار التكنولوجي. ما يمكن قوله الآن أنه قد حان وقت إطلاق «اليورو الرقمي».


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com