بقلم الدكتورة/ مريم الشامسي
دكتوراه الفلسفة في الإدارة التربوية
لقد عرف النقد المعاصر عدة مناهج ونظريات اهتمت بمقاربة النصوص وتفسيرها، ومن أهم تلك المناهج؛ النظرية السيميائية التي لعبت دورا مهما في تفكيك النصوص وفك شفراتها، والإمساك بالدلالات والكشف عن بنيات النصوص، كما أن السيميائية تتيح للقارئ إنتاج دلالات جديدة من خلال قراءته، إضافة إلى أنها ترصد جماليات النصوص الأدبية.
وتسعى السيميائية إلى الكشف عن الدلالة؛ أي دلالة الظواهر والنشاطات الإنسانية على اختلاف مصدرها أو تصنيفها (أدب – فنون – هندسة… إلخ). ومن هنا فقد كانت جملة الآراء والأفكار النظرية التي طرحها المنهج السيميائي هادفة إلى غاية واحدة مشتركة، وهي غاية الدلالة، حتى إن اختلفت النظرة أو المنهج التحليلي. “لقد جاءت السيميائية لتقريب العلوم الإنسانية من حقل العلوم التجريبية، وهي تهتم بإنتاج العلامات واستخدامها، بحيث تتجلى الأنظمة السيميولوجية من خلال العلاقات بين هذه العلامات. والسيميولوجيا منهج يهتم بدراسة حياة الدلائل داخل الحياة الاجتماعية، ويحيلنا إلى معرفة كنه هذه الدلائل وعلتها وكينونتها ومجمل القوانين التي تحكمها..
ويتميز النص في المقاربة السيميائية بأنه نص ديناميكي، ومن هنا فإن قراءة النص الأدبي من الوجهة السيميائية لا بد معها من المرور بالمرحلتين الآتيتين: القراءة السيميولوجية وهي قراءة تختلف عن قراءة النقاد العادية بانفتاحها الدائم ويرجع هذا الانفتاح إلى عدة أسباب أهمها أن النص يعني شيئا على مستويات عديدة في المكان وفي لحظات عديدة في الزمان لذا تختلف كل قراءة عن أخرى .وما بعد القراءة وهي الانتقال من المرحلة المادية إلى مرحلة المعنى، وبما أن المعاني ليست ثابتة أو مثالية، وإنما تتوقف على المحيط الثقافي والعصر، وعلى كل من المرسل والمتلقي، فإن المعنى يصبح علاقة معينة بين أناس يتصلون فيما بينهم في فترة ما. فالنص الأدبي في المنهج النقدي السيميائي متعدد الدلالة، وذلك لتعدد قرائه ومتلقيه.
إن مرحلة ما بعد القراءة بحسب المنهج السيميائي تجعل النص الأدبي منفتحا لقراءات مختلفة ومتنوعة، مما يجعل من دخول المتلقي في تفاعل مع هذا النص أمرًا لازمًا، فالسيميائية “لا تبحث عن دلالات جاهزة أو معطاة بشكل سابق على الممارسة الإنسانية… فما يستهوي النشاط السيميائي ليس المعنى المجرد والمعطى، فهذه مرحلة سابقة على الإنتاج السيميائي، بل المعنى من حيث هو تحققات متنوعة ميزتها التمنع والاستعصاء على الضبط وتطبق هذه القراءة على النص القرآني كما هو في قوله تعالى: ” أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ” (الصافات) فهنا تشكيلات المكان غير المعهودة والمألوفة التي تداهم حدود المألوف والمعتاد تصنع عجائبية المكان. وحاصل التشبيه أنه لا يشترط أن يكون مستندًا إلى صورة أو هيئة في الواقع الخارجي، بل يكفي كونه مركوزًا في الذهن والخيال، قال الجاحظ مبينا عجائبية هذا التشبيه: “وإن كنّا نحن لم نر شيطانًا قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا صادقٌ بيده، ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان… دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح، والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت”. والمكان الذي تشكله لغة القرآن هنا هو أصل الجحيم، وشجرة الزقوم، وهو يعبر عن غيبيات لم يرها إنسان أو يطلع على تفاصيلها، غير أن في اللغة مجالاً لرؤيتها، إذ إن في إصباغ دلالات اللغة على المكان مدعاةً للتخييل لإخراج صورة حسية غريبة تمثل هذا المكان في ذهن الكافرين، وفي ذهن المتلقي من بعد.
ويمكن من خلال المنهج السيميائي دراسة الصورة البصرية وهو ما يعرف بالسيميائية البصرية، والسيميائيّات البصريّة أو العلامات البصريّة: “هي حقل من السيميائيّات يعنى بتحليل الكيفيّة التي بها ومن خلالها تقوم الصور البصريّة بتوصيل رسالاتها، وتتعدد الصور البصريّة بتعدد شفراتها أوأنظمتها الرمزية” أو هي : دراسة العالم الطبيعيّ وسيرورته الدّلاليّة بالاعتماد على الصورة (البصريّة) بوصفها أداة لنقل المعلومات من المحيط الذي تنتمي إليه ومعالجتها من خلال هذه القناة الإدراكيّة، “قد تنقل العالم بإيجاز وإيحاء واختصار أو قد تنقله مفصلًا واضحًا جليًّا” وبهذا تُعدُّ السيميائيّات البصريّة جزءًا من السيمياء العامة إلا أنّها تعنى بدلالة الصورة، أو الصور البصريّة مع نصوصها الموازية والمجاورة ورصد بعدها التّواصلي والسياقيّ والوظيفيّ فضلًا عن التّشديد على البعد المعرفيّ والبعد التّداوليّ.
وقد استعمل النّص القرآنيّ هذا النّوع من العلامات في كثير من الآيات القرآنيّة؛ لما تتصف به من صفات جعلها تتميز عن غيرها من العلامات الآخر؛ لوضوح معانيها – في أغلب الأحيان – الأمر الذي ” يؤدي إلى اتساع دائرة المتلقين الذين يتفاعلون من دلالة الصورة … كما تمنح المتلقين فضاءً تأمليًّا يتسع لكل الأحداث التي تعبّر عنها، وتستوعب الأطياف الوجدانيّة التي تنجم عن تفاعل المتلقيّ معها”، وقد يعرض النّص القرآنيّ هذه العلامات مجملة أو قد يفصل فيها، فيذكر بعض ما يحصل عليه الإنسان بحسب ما يقتضيه السّياق .
وعلى سبيل المثال من آيات النّعيم والعذاب التي جاءت بطريقة الإجمال قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133﴾ (سورة ال عمران 130 – 133 .
تتحدد العلامة البصريّة في (النار، الجنة)، وقد استند النّص إلى أسلوب التقابل بينهما، فالنار يحصل عليها الفرد نتيجة الكفر، والجنة يحصل عليها بالإيمان والتقوى، أيّ ﴿ كما أعدت النّار للكافرين ﴾ ([25]) أعدت الجنة للمتقين فقد﴾ اختط أمام المتلقي سبيلين ليختار منهما بنفسه، فيكون عالما بنتيجته قبل وقوعه﴾ ([26]) .
فالربا طريق الكفر والنتيجة النار والطاعة طريق التقوى والنتيجة الجنة
وهنا انطلق في ذهننا بناء تصورعن الجنة وذلك من ثوابت نعرفها، وهي محيطة بنا تتمثل بموجودات كونيّة ( السّماوات والأرض ) فلا أحد يستطيع إنكار مدى كبر حجمهما لتكون وسيلة للمقابلة بينهما وبين حجم الجنة ([27]) أيّ إنّنا ” نبني تصورًا عن شيء بالاستعانة بشيء آخر قريب من إدراكنا، وفهمنا بغرض البيان والتوضيح والإيضاح “، فنجد النّص الكريم شبه عرض الجنة بأنها ” كعرض السّماوات والأرض إذ ضم بعضهما إلى بعض ، وجمال التّشبيه هنا يمتاز بإظهار المغيب بصورة المعروف القريب”.
علما بأنني قد تطرقت للمنهج السيميائي في رسالتي للماجستيركما تناولت الموضوع بشيء من التفصيل في كتابي (سيميائية النص القرآني) وللحديث بقية …