وكما الفن يوحد الشعوب مثل ما كُتب على جدران بلدي في ذات مِحنة، فإنه كذلك يوحّد العقول، والفنون باقية بقاء العقل البشري تتغذى على مدى إدراكه لأهمية استمرار الحراك الثقافي الفني، فالفن ثقافة مستمدة من الشعوب ووحدة العقل والثقافة مع الفن تخلق ثورة جمالية من العقائد والقواعد والإرث الفكري الذي قد يفوق تلك القوة التي تتغذى على الامكانيات والطاقة الخارجية، فالقوة تصل إلى أعلى مستويات التأثير، حين يكون الإنسان هو المتحكم وهو من يضع قواعد الفنون، والفنون تتطور وتتخذ مناحي عميقة بإمكانيات عقله الدائمة دوام استمراريته على قيد الحياة، أما الإمكانيات الخارجية التي تأمر العقل بأن يعتمد عليها اعتماداً كلياً ليُحدث حراكاً أو يتخذ موقفاً فهي بالأحرى تتحكم في قدراته بل ومع الزمن قد تُفقِده القدرة على الإنتاج والابداع والتفكير المبدع، نظراً للتعود على الأخذ والبعد كل البعد عن العطاء والمبادرة.

عقولنا حين تعتاد التفكير بمنطق ودون حوكمة خارجية بغرض البذل والمشاركة في النهضة الفنية المجتمعية القائمة على الإيجابية، فستتمركز قواها على نقطة التمركز في التفكير بكثافة وتُنتُج، وحين يتعود العقل على التفكير على مستوى منخفض ومن ثم على مستوى متطور نسبياً يصبح لديه سرعة وسهولة في التفكير، وحالما يعتاد العقل على التفكير يصبح متهيئاً لاستقبال ثورة المعلومات والأفكار، وكلما استقبل ما اكتفى بل ثار في سبيل الاستزادة والتعرف على الأشياء عن بعد، ليتمكن حينها من جذب الأشياء إليه وكلما تعلم زادت رغبته في المزيد ومن ثم تأتي مرحلة “الحوار”، ولعل من أهم مايثيره الحوار من حالة هي عملية الأخذ والعطاء التي لاتكتمل إلا بالاستماع كمرحلة أولى وصولاً إلى الإنصات، والإنصات مع الوقت يصبع عادة قد تأخذ صاحبها إلى الإدمان المفرط وهنا تكمن جماليته، وخلق الحوار أحد طرق التفكير والمعرفة العميقة.

نلتمس بعض الحوار ولحظة صمت وقليل من الإنصات نتكئ عليه، فإذا افتقدنا لذة الإنصات واجتذبتنا المواساة السطحية بالعبارات والكلمات دون مبالاة أصبح لاداع لثرثرة النفس والجدال المنهِك ولابد من التمعن مرة أخرى في مفردة “الحوار”، يعرفها البعض بأنها: “المناقشة بين الأشخاص بهدوء ودون تعصب  لرأي أو عنصرية وأنها مطلب من مطالب الحياة الأساسية …”، فلما أُعتُبِر الحوار مناقشة كان من الضروري توفر بعض العناصر وهي الأشخاص ومحور النقاش، ومن ثم الهدوء ولم يكن ذِكر الهدوء من مبدأ الإضافة الكمالية بل لما في الهدوء من قدرة على تمكين العقل على الفهم، ولطالما تسبب التعصب للرأي في فض مجالس، ولنركز قليلاً على هذه الجملة من التعريف: “الحوار مطلب من مطالب الحياة الأساسية” فالبيئة الخالية من التفاهم والحوار والنقاش بيئة مُنَفِّرَّة، كأن يعيش إنسان في غابة يعقد جلسات حوار في ليلة سمر يحاور الكائنات الأخرى كُلٌ يستمع للآخر لكن لا أحد يفهم ماذا يُقال!، تلك وحشة وشعور بالغربة، فحين نقنع أنفسنا بأن صوت البحر لايُسمع، وأن هدوء الصمت متوقع وأن حزن الروح مجرد ردة فعل مؤقتة نكون هنا قد قررنا أن نبني لأنفسنا مستودع من اليأس وموت الضمير وفقد الاحساس بالآخر.

في تمام الساعة الثانية عشر في منتصف ليل سابق متأخر في خطواته متأنياً وخائفاً من اكتماله عند تمام الوقت، وفي تمام الثانية عشرة في منتصف صباح لاحق ينتظر متلهفاً أن يكتمل انتصاف الساعة ليبدأ مشواره بلهفة كلما زادت ساعاته شعر بالذبول، نحن نكرر ذات المشهد بتباين التوقيت لا أكثر، ولكن قد يكون الأوان قد فات في اللحظة التي نعجز فيها عن مرور الوقت المفترض ظناً منّا وإيماناً بأن المشاهد دائماً تتكرر، حينها خوفنا من أن تتعطل الساعة سيُلازِمُنا طيلة الوقت، ويبدأ القلب والعقل يلقيان اللوم كلاهما على الآخر وفي الوقت الذي يتلاومان فيه يُحدث الجسد ردة فعل اضطرارية بعد أن فقد التواصل مع الجهة المسؤولة عن أمره، ونحن حين يفقد عقلنا السيطرة على قراراته بسبب تدخل دخيل آخر لربما يغيب عن ساحة المنطق القرار السليم القائم على الأدلة والبراهين، والقول الصائب والتصرف الصحيح، فماهو الحل؟، كيف نعيد لذواتنا المنطق والصواب، كيف نعيدنا لساحة المنطق ونبعد أنفسنا عن سلبيات التفكير وتيهة الفِكر! كيف نعود لنستوعب أفكارنا ونضعها في رف الحاضر لنتسابق مع الزمن فتصبح واقعاً، كيفية هذه الأشياء من وجهة نظري هي في الإيمان بأهمية معرفة كيفية إتقان لغة الحوار والإنصات والصمت، ففي إتقان لغة الحوار هناك مدارك وميادين وأبواب من المعرفة البشرية وتقييم التجارب واختصار الوقت الثمين الذي نحتاجه ونهدره في ساعات طويلة نحتاجها للتفاهم مع الآخر، فعندما نتحاور إن مايحدث هو أننا نعطي للآخر المجال ليدلي مابنفسه هو حين يتحدث يحتاج لأن تنصت بكل حواسك له حتى يتمكن من أن يعطي بسخاء ويشرح ويبرر ثم هناك بين حديثه وختامه بضع دقائق يحتاجها ليفرغ تلك التنهيدة ومن بعدها وكلما طال وقت التنهيدة كان دورك هنا لتلقي على مسامعه بعضاً من ما ذكر وتدعمه برأيك ووجهة نظرك الخاصة التي ينتظرها، هنا يكمن جمال الحوار البنّاء ويصبح الحوار ذو جدوى، نحتاج بكل ما أوتينا من صمت إلى لحظة إنصات ولحظات صمت مع الآخر فلغة الحوار لن تكتمل إن كان النقاش متوازياً أي أن نتحدث أنت وأنا في ذات الثانية أو أن تفرق دقائقنا ثوانٍ غير معدودة تفصل الكلمة والأخرى، ورغم أنك قد تظن بأن الحوار ثنائي الطرفين الوقتي قد يوفر عليك فارق الزمن، إلا أنك حين تستمع بهدوء فأنت تختصر على نفسك الوقت وتعطي نفسك مجالاً لفهم الآخر ومع الوقت لن تضطر لأن تكثف طاقاتك اللازمة للاستماع الإجباري.

وما إن نعي أن لغة الحوار تسمو بمن يتقنها وأن بعض الحكايات والأحاديث لا يعالجها الحديث السطحي، حتى ندرك أن الحكمة والهيبة خلقت من روح الإنصات.

بقلم: فريال عبدالله – الإمارات