كلما تقدمَ بي السنُ كلما ازداد إيماني بنظرية النمساوي ( أوتو رانك ) التي سماها ( صدمة الميلاد Trauma of Berth ) , فالعالم في تسارع مُخيف نحو المادية البشعة المُفرطة المؤلمة , وهذا مايجعلك حقاً تؤمن بأن الجنين الذي ترك الأمان والسكون والوفرة والهدوء في بطن أمه وخرج لهذه الدنيا سيصابُ بصدمةٍ عنيفةٍ ولاشك ..!!
وعلى الرغم من هذه الصدمة إلا أن الأطفال يخرجون للدنيا صفحةً نقية صافية بيضاء يزدحم فيها الجمال والبراءة والحنان والحب غير المشروط والصدق والشفافية والنقاء , باختصار يخرج على فطرة الله النقية التي فطره عليها ونحن من يقوم بتلويثه وإفساد عالمه وغرس السلبيات فيه ودفعه دفعاً لإخراجه من دائرة البراءة والشفافية والصدق , إلى دوائرنا المعقدة المركبة المتعددة المسالك والكثيرة الأنفاق ..!!
روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ) ..!!!
ومن أبرز مظاهر دخولنا لعالم الأطفال النقي وتلويثه , أمران اثنان ..
الأول :
إقحامهم في مشاكلنا وخلافاتنا المختلفة , بل وبعضنا يقحمهم حتى في المشاكل والحروب والكوارث العالمية , فبات كثيرٌ من الأطفال يتابع مايحدث من مجازر وفظائع وقتل وتدمير في كثير من مناطق العالم , وذلك بسبب أن كثيراً منا لايُراعي وجود أطفاله أثناء متابعته لهذه الأحداث , أو أن الأحداث باتت تصل إلى أجهزتهم التي تمسكها أيديهم الغضة ..!!!
والبعض يُقحمهم عمداً في مشاكله وخلافاته الخاصة مع من حوله , فإذا اختلف مع قريبٍ له أو جار أو صديق , نقل هذا الخلاف من وجهة نظره إلى أطفاله , فشحنهم بالعداوة والبغضاء وزرع في نفوسهم البريئة الحقد والغضب ضد الشخص الذي اختلفَ معه , وبعضهم قد يطلب من أطفاله بصيغة ألأمر أن يقطعوا علاقاتهم بفلانة أو فلان وكل من يمت لهم بصلة , ويجهل أن هذا الغرس الشيطاني الذي غرسه في هذه الأرض الخصبة سيجني هو ثماره المُرة القاتلة ثم أطفاله , فهم سيتخذون هذه السياسة منهج حياة وسوف يعتمدوها طريقةً وحيدة للتعامل مع من حولهم ومع إخوانهم ..!!!
وقد يصطلح هو مع خصمه ويبقى مافي نفوس أطفاله لايذهب أبداً ..!!!
فمن المفترض أنه ومهما بلغ الخلاف بينك وبين شخصٍ ما ، أن لاتُقحم الأطفال في هذا الخلاف ولاتجعلهم طرفاً في هذا الخصام ولاتستخدمهم أسلحة وأوراق ضغط ضد خصمك مهما حدث ..!!
الثاني :
كانت أمي – شفاها الله وعفاها – دائماً تقول : قاضي الأطفال شنق نفسه ..!!
فخلافات الأطفال وشجاراهم ومشاكساتهم لبعضهم لا تنتهي مهما حرصت ..!!
وكنت دائماً أقول : أن أفضل طريقة لحل نزاعات الأطفال هي عدم التدخل فيها بأي شكلٍ من الأشكال , فالأطفال سرعان ماينسون مابينهم من خلاف ويعودون للعب ثانية وكأن شيئاً لم يحدث ..!!
وعلى المستوى الشخصي دائماً ماألزم الحياد مع مشاكل أطفالي وأطلب منهم الذهاب إلى غرفة وعدم الخروج منها إلا إذا تفاهموا بينهم وعرف كل واحدٍ منهم أين كان الخطأ واصطلحوا واتفقوا على حل الخلاف بطريقة مثالية , وكانوا دائماً – وأقصد دائماً حرفياً – يخرجون من الغرفة بحلول مدهشة ماكنتُ سأصلُ إليها مهما اجتهدت في ذلك – ماشاء الله تبارك الله – وهذه ليست خصوصية في أطفالي بل كل الأطفال يملكون هذه القدرات المدهشة ..!!
ولديَّ قانونٌ في المنزل يمنع منعاً باتاً أن ينقل أي شخص كلاماً عن أخيه أو أخته , فمهما فعل من خطأ أو تجاوز فليس له حق في نقل الأمر لي تحت أي ظرفٍ من الظروف ..!!
وعلى الرغم من ذلك لم يسلم الأمر من نزاعات وخلافات كثيرة ومزعجة ..!!
وتدخلنا هنا – في الغالب – يكون تدخلاً سلبياً ننصر فيه طرفاً على طرف دون أن نعي الحقيقة الكاملة لما حدث ..!!!
هذا في حال الخلافات الداخلية – الداخلية , ويزداد الأمر سوءاً عندما تكون الخلافات داخلية – خارجية , فكثير من الأطفال ( وأعني بالأطفال من الولادة إلى نهاية الطفولة المبكرة وماقبل فترة المراهقة , وهي تقريباً ماتصل إلى ال 13 وال 14 عاماً ) ففي هذه الفترة , وبالذات فترة ماقبل المراهقة , والتي تعتبر أخطر فترة تمر على الطفل , وألتي أعتبرها أخطر حتى من فترة المراهقة نفسها , فالأطفال في هذا السن يمتازون بتقلب المشاعر والاعتداد بالنفس بشكل كبيرٍ جداً , وقد يصطدم طفلان مع بعضهما البعض من هذه الفترة اصطداماً عنيفاً , وهذا أمرٌ طبيعي للغاية , ولكن الغير طبيعي والغير مقبول هو أنك قد تجد أن تدخلات الكبار في مايحدث بين هذين الطفلين قد يكون تدخلاً سلبياً يزيد الأمر تعقيداً والطين بلةً ..!!
فقد تجد الكبار يخلطون بين مشاعرهم الشخصية وخلافاتهم الخاصة – ودون شعور منهم – وبين هذه الخلافات الأكثر من عادية , وقد ينحاز أحد الكبار لطرف طفله دون أن يشعر بهذا الانحياز ويستخدم تعبيرات وألفاظٍ أو يتصرف تصرفات لاشعورية تُهين الطفلَ الآخر وتحرك فيه العناد وتدفعه دفعاً نحو مزيدٍ من الغضب الذي تمتاز فيه هذه الفترة , فتكفي عبارة حمقاء غير محسوبة العواقب أو دفعاً باليد من الكبير أمام ابنه للطفل الآخر لتحوله إلى وحش كاسر يفقد السيطرة على أعصابه فيزداد غضبه وانفعاله , مما يدفع الكبير إلى مزيدٍ من القوة في رد هذا الانفعال وصده , فيتطور الأمر ويتحول الشجار من صغار – صغار طبيعي وبسيط وعادي وسينتهي حتى ولو طال به الزمن , إلى خلاف كبار – صغار غير متكافئ الأطراف ولا القوى , مما يدفع دفعاً الكبار في الطرف الآخر إلى التدخل القوي لحماية طفلهم من هذه الرعونة والتصرفات الغير عقلانية , فيتحول الخلاف إلى خلاف كبار – كبار , فلن يرضى أحدٌ مهما بلغ حلمه وصبره ودماثة أخلاقه أن يترك طفله عرضة لانتهاك صارخ من كبير لايعي مايفعل ..!!
وهذا مايجعل هذه الخلافات مدمرة ممزقة دائمة صعبة الحل ..!!
وليس هناك إلا حلاً واحداً لمثل هذه الخلافات وهو التدخل الايجابي من الكبار والحرص كل الحرص على اختيار الألفاظ واستخدام العبارات , ويكون دورهم فقط صمام أمان يمنعوا أي اشتباكٍ بدني أو لفظي دون عبارات جارحة أو ألفاظ مستفزة أو ضغطٍ على طرف دون طرف , ويستحسنُ أن يتدخل في نزاعات الطفلين طرف ثالث محايدٌ يُصلح ماحدث بينهما بالحب والود والحكمة .., وسيعود الطفلان أكثر من سمنٍ على عسل – كما يُفال – وسيمرُ الأمرُ بسلام ..!!!
ختاماً :
كثيرةٌ هي الأمور التي نرتكبها فنخرج أطفالنا من عالمهم النقي إلى عالمنا الملوث , وفي هذا المقال قد تشرفتُ بأن أكون ساعي بريدٍ للأطفال لأوصل لي ولكم رسالتهم :
اتركوا عالمنا نقياً ..!!!
بقلم: أحمد سليمان النجار – (السعودية)