رستْ سفينةٌ على الشطِ وبدأ الناس ينزلون منها , وكان من بين من نزلوا شيخٌ سبعيني يُسمى بأبي الطيب الطبري , وكان يقفزُ قفزاتٍ يعجزُ عنها صغار السن ..!!, فسأله الشباب ممن حضر مستغربون : ماهذا ياأبا الطيب ؟!! فقال : هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر ..!!
سأستخدمُ هذه القصة الطريفة – بعد إذنكم – مدخلاً لاستراتيجية جديدة أظنُ أنني – ولعلي أكون على خطأ – أول من ابتكرها ..
وهي استراتيجية ( ترشيد استهلاك الحياة Rationalize life consumption )
وسوف أُطلقُ عليها اختصاراً ( RLC ) ..
وهذه الاستراتيجية هي نفسها التي أعتمدها أبو الطيب – شيخ الشافعية يرحمه الله – ولكني وسعتها لتشمل كل النواحي المادية والمعنوية ..
سمعنا كثيراً عن ترشيد الاستهلاك في المال والكهرباء والمياه وغير ذلك من أنواع الترشيد .., لكن هذه الاستراتيجية RLC تدعو إلى ترشيد الاستهلاك في صحتنا البدنية والعاطفية في آنٍ واحد ..
لن أتحدث عن الجانب الجسماني فلقد كفاني الشيخ أبو الطيب – يرحمه الله – مؤونة ذلك .., فمن حافظ على جسده وحواسه ولم يستنزفهما , حفظته – بإذن الله – عندما يكبر سِنه , وكلنا يعي تماماً كيف نفعل ذلك ونحافظ على سمعنا وأبصارنا وأجسادنا ..
سأتحدثُ – بإذن الله – عن ترشيد الاستهلاك العاطفي وهو الشق الثاني في استراتيجية RLC , فأقول :
هناك علاقة طردية بين عواطفنا وأجسادنا , فكلما تحسنت المشاعر أنعكس ذلك ايجاباً على الأجساد والعكس صحيح , فلا يتم الشق الأول من استراتيجية RLC إلا بالشق الثاني , ولا الشق الثاني إلا بالشق الأول , في عملية تبادلية رائعة للغاية ومثمرة ..!!
ولكي نبدأ في ترشيد استهلاك عواطفنا :
1- الإيمان :
الإيمان عاملٌ مهمٌ جداً لحماية الإنسان , فالإنسان المؤمن بالله وقدره وقضائه ووجوده قبل كل هذا , يستطيع أن ينظر إلى الحياة وأحداثها بمنظار رباني راقٍ وحكيم ومريح وصحي للغاية , فالخطوة الأولى هي تقوية إيماننا بالله – عز وجل – إيماناً صادقاً حقيقياً مع كل مستلزماته من أعمال صالحة والتزام , ولهذا طرقٌ كثيرةٌ ووسائل عديدة لا أخال أننا نحتاج إلى التعريج عليها فهي معروفة وواضحة ..
2- فلسفة مرآة السيارة :
الإنسان بين ماضٍ انتهى ولن يعود , وبين حاضرٍ يحياه بكافة تفاصيله , وبين مستقبلٍ لايعلم ماذا سيحدث فيه إلا توقعاً قد يُصيب وقد يخيب ..!!
ولكي نوجد علاقة صحية بين هذه العناصر الثلاثة الهامة , لنتخيل أننا نقودُ سيارةً على الطريق , فالماضي سيكون خلفنا والحاضر هو السيارة التي نحن فيها الآن والطريق الذي نحن عليه , والمستقبل هو الطريق القادم والهدف الذي نريد الوصول إليه .., فلو أن السائق ظل ينظرُ للخلف ( الماضي ) فقد يصطدم بأمور كثيرة تعيقه ليس عن الوصول للمستقبل الذي يرجوه فحسب بل حتى عن أن يعيش حاضره الحالي ..!!, وإذا هو لم يعتنِ بسيارته وبالطريق الذي هو عليه الآن ( حاضره ) فستتعطل سيارته ولن يستطيع إكمال مسيرته , وإذا لم يراقب طريقه سيضل ويشقى ..!! وإذا لم يكن يعي الطريق القادم ( مستقبله ) ويعرف وجهته جيداً ويحدد هدفه ويُعدُ له عدته فلن يصل إلى مكان محبب إليه في نهاية المشوار ..!!
خلاصة الأمر : حدد أهدافك ووجهتك واعرف إمكاناتك وقدراتك جيداً وجهز نفسك , واعتنِ بسيارتك وراقب طريقك وحافظ عليه واختاره بعناية وحكمة , وسيكون الماضي خلفك فلا تندم عليه فقد فات ولن تستطيع إصلاح شيء فيه فلا تُرهق نفسك , فانظر إليه عبر المرآة نظرة خاطفة كلما احتجت لذلك , حتى تستفيد من تجاربك الماضية ولاتكرر أخطاءك السابقة ..!!
3- حدد دائرتك الاجتماعية الخاصة :
كتبتُ سابقاً مقالاً بعنوان ( دوائر العلاقات الاجتماعية ) , وسأضع رابطه – بإذن الله – وسأتشرف بالتوسع عبر قراءته مع المقال ، وفيه أوضحت نظريتي الخاصة في ذلك ..
وأضيفُ عليها أنك لابُد أن تعيش حياتك كما تريد لا كما يريد الآخرون , وأن تكون جاداً جداً في الابتعاد عن أي شخصٍ أو مكانٍ يؤذي مشاعرك مالم يكن من دائرتك الخاصة التي حددتها بعناية فائقة , كائناً من كان وماكان , ولاتُرهق نفسك في محاولة استصلاح أصحاب القلوب السوداء التي قد باض فيها الحقد وفرخ , ولا من يحسدك على فضل الله عليك فهي من العداوات التي لاتُرجى مودتها ..!! ولاتتبعن مُقفياً أبداً
يقولون في التراث الشعبي :
( لاتتبع المقفي ترى المقفي يعنيك ..! !)
وفِرَ فرارك من الأسد من أصحاب الأمزجة المتقلبة والنفسيات الغير سوية والمتغطرسين المتعاظمين الفارغين , وإن أجبرتك الدنيا على قربهم , فحيدهم قدر المستطاع ودارهم كما تداري المختل عقلياً حتى يأذن الله بفرج من عنده ..!!
وسيكون حالك كما وصفه العبقري المتنبي :
ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى *** عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ ..!!!
4- فرقْ بين التنازل والتضحية والهزيمة ..
لابأس أن تتنازل – أحياناً – إن كان في التنازل مصلحة أعظم من مصلحة عدم التنازل , ولن تكون حينها منهزماً أو ضعيفاً أو جباناً , بل بطلاً حكيماً وواعياً , ثم إياك أن تقع في فخ التضحية إلا لمن يستحقها .., وتأكد أنك لن تكون مهزوماً إن تغاضيت عن جاهل , لن تكون مهزوماً إن صبرت على أذى مُحتمل مقابل مصلحة أعظم , لن تكون مهزوماً إن تخليت عن أمرٍ ما لشخصٍ ما لأنك ترغبُ في الطيران عالياً عن وحول أخلاقه ومشاكله ..
وستكون مهزوماً فقط عندما تسقط من عين نفسك ..!!
5- بين الخوف والحزن :
قدم كل ماتحتاج إليه لتنجح وافعله وكن مثابراً صبوراً محتملاً جاداً قنوعاً قناعة إيجابية وليست قناعة ( حامض ياعنب ) , ولاتنتظر من أحد شيئاً واخفض سقف توقعاتك الايجابية من الآخرين , واربط ماتقدمه لهم بالله عز وجل له ومن أجله وفيه , ولاتخش غداً , فهو بيد الله عزو جل ..
وإني رأيت أن أكثر مايخيف الناس في مستقبلهم أمران اثنان :
الموت والرزق ..
حافظ على صحتك واعتنِ بنفسك ومايأتي من الله لاراد له , والموت له وقت معلوم وكتاب لن يتقدم عنه ولن يتأخر { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ..
والرزق – كالموت – آتٍ ومضمون , بل إن الله – سبحانه وتعالى – لم يجعله في الأرض بل جعله في السماء عنده { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } ..
تفاءل
ابتسم
اغدق الحب على من حولك بلا مقابل ولاشرط
وثق أنك كلما رست سفينتك على شاطٍ ما ، ستنزل منها تقفزُ فرحاً ونشاطاً كما كان أبو الطيب يفعل …
** أنا قد انضممتُ لفريق RLC معنوياً , فإن أردتِ أو أردتَ أن تنضم معي – معنوياً – أرسل لي وأعلمني بذلك وسأكون سعيداً للغاية ..!!
بقلم: أحمد سليمان النجار – (السعودية)
مستشار أسري وتربوي معتمد