|  آخر تحديث أغسطس 23, 2017 , 2:38 ص

#رنا_مروان | تكتب: “فالقلب ينحاز” ( الجزء الخامس )


#رنا_مروان | تكتب: “فالقلب ينحاز” ( الجزء الخامس )



أمّا أنا فقد كنت في حالة تصنّم كامل, ما أذكره بأنني مجرّد سماعي لكلمة ” خلايا سرطانية ” أصبت بقشعريرة ٍ هزّت كياني, فؤادي, وكامل أعضائي, تذّكرت كلام أمي لي: بأنها حاولت وجاهدت للتخلص ممّا ألّم بها ولكنّها لم تقدْر, تذكّرت ُ صورها وهي على أسرّة العلاج مبتسمة ً تتألم وتقول: من أجلك يا بني, سأعود إليك يا آدم, شيءٌ ما جعلني أنطق برفق بل أنا قادم ٌ إليك يا أمي, ها انا على خُطاك ِ روحا ً وجسداً, الآن فهمت ُ وأدركتُ كل شيءٍ كان يحيط بي ويبدوا لي كالمزحة الثقيلة, ابتسامات الأطبّاء وكلامهم, عمّتي ليلة البارحة وأبي منذ يومين, كل شيء بدا مختلفا ً الآن بنظري, لعله أكثر دقّه وأشد وضوحا ً مفاهيميا ً وصحيّا ً, فقد كانت تقلّبات جسدي الصغير من حمّىً في الآونة الأخيرة وتعرّق ٍ ليلي ٍّ غير طبيعية, حتّى إن الكدمات الطفيفة باتت تبدوا مخيفة ً أينمّا حلّت في جسدي, لقد بدا لي صوت أمي أكثر دفئا ً من ليلة البارحة, لقد كنت أعايش ما عايشته هي بمفردها بالفعل, لم أكن أعلم إن كان يتوجّب علي ّ البكاء أو الضحك في مثل هذه اللحظة, هممت بالضحك المرافق للدموع وأخرجت إبرة العلاج التي كانت تقطر برفق ٍ وكأنّ كلّ قطرة ٍ كانت تتخلل خلايا جسدي المرهقة منها تنبئه بالذهاب القريب, تخيّلت ذلك السيروم المعلّق إلى يميني وكأنه ساعة رملية قد قُلبت فجأة لتمنحني الأيام المعدودة القليلة المتبقية من عمري, أخرجت الإبرة بيدي الأخرى ونزلت من على السرير لأرى إنعكاس صورتي على زجاج الخزانة المرافقة لسريري, لقد كنت أشبه أمي بطريقة ٍ مُخيفة؛ شحوب اللون ذاك الذي كان يعتليني وإرتجاف جسدي من تحت هذا اللباس الأزرق اللون بلون السماء, لقد كان فضفاضا ً علي ّ لم أكن أشعر بنفسي لأكون صادقا ً من شدّة الصدمة التي كنت أعايشها.

خرجت ُ إلى أبي وقد وجدت حالته النفسية لا تقل سوءا ً عن حالاتي, تفاجأ أبي حال خروجي وقال مرتبكا ً: آدم! لم أنت هنا لم َ لم تكمل دوائك يا بنيّ, أرجوك عد إلى سريرك يا صغيري هيّا وأعدك بعد أن ينتهي ذلك السيروم أن نذهب إلى الحديقة المفضلة لديك, تقدّمت إليه بخطوات ٍ متثاقلة, أعلم كلّ شيءٍ يا أبي, لقد سمعت حديثكما بالكامل, لا داعي للتظاهر بعكس ذلك, أنا مصاب ٌ بذات داء أمي الذي سرقها منّا, ألم أخبرك َ يا أبي ليلة البارحة بأنني قد تعبت وأرهقت وبحاجة ٍ للذهاب إلى جانب أمي, انظر أنا ذاهب ٌ إليها الآن, كم يبدوا الأمر جميل أليس كذلك؟! أعتذر يا أبي فأنا في هذه الحالة لا أستطيع الوفاء لك بالوعد الذي وعدتك إيّاه, أنا الآن مصاب ٌ بـ ” سرطان الدّم ” أنا فقط الآن أعيش آخر ما تبّقى لي من تذكرة الحياة التي وهبني إيّاها الله بكل رفق, إن روحي تودّع كل شيءٍ في هذه اللحظة, أعتذر يا أبي, أرجوك سامحني, تأكد بأني أحبك جدا ً وأكثر مما تتخيل ولكنني ها قد ورثت ذات المرض من أمي بلا حول مني ولا قوة. حاول أبي إسكاتي بكلماته المتلعثمة ودموعة الرقيقة ولكنني أوقفته, أرجوك يا أبي لا تقل أيّ شيء قط! اصطحبني إلى البيت, أنا بحاجة ٍ الآن لأشاهد الفيديو الذي تركته لي أمي من جديد, أنا الآن أقترب منها أكثر وأشعر حقيقة ً بما كانت تحاول إخباري به ليلة البارحة, كان الطبيب يراقبنا وهو في حالة حزن تامّة والدموع تُذرف من عينيه, طبطب على يدي أبي وقال له: كان الله في عونكأبا آدم, خلعت ذلك الزي الأزرق وخرجت إلى زرقة السماء واتساعها تنفسّت ُ الصعداء وصعدت إلى السيّارة وغادرنا المشفى إلى البيت مباشرة بدون أن ينبّس لأي منّا أنا وأبي طرْف كلمة ٍ واحدة, وصلنا البيت ورميت ُ بنفسي خارج السيّارة واستلقيت ُ على الأريكة أمام شاشة العرض وشاهدت فيديوهات أمي مراراً وتكرارا ً إلى أن غفوت والدموع تملأ أجفاني ووسادتي بل الأريكة بأكملها.

في صباح اليوم التالي وجدت ُ نفسي ملقى ً على الأريكة مثل ورقة ٍ هشيم تذروها رياح الحزن والجفاء أينمّا حلّت وأبي يحضّر لنا طعام الإفطار من بعد ان غادرت عمّتي المنزل البارحة وتأخر قدوم المساعدة التي كانت تهتم بهذه التفاصيل, أخبرت ُ أبي بأن لا يُتعب َ نفسه فأنا لا أجد أدنى شهية لتناول كسرة خبز ٍ واحدة, همهم أبي, نعم, نعم, أنت كذلك! ما زلت َ تظن ُّ أنّك طفل أمك المدلل, أنا لم أسألك حتّى إن كنت ستتناول طعام الإفطار أم لا؛ فأنا أعدّه لنفسي يا آدم, لن أكترث بعد اليوم لما ستأكل أو ما لا تأكل, لقد قمت بواجبي معك على أكمل وجه وما أعرفه أنّك أنت من أعلنت استسلامك لي البارحة ونقوضك للوعد الذي قطعته لي. عدّلت من جلستي لشعوري بأن مسار الحديث بدأ يؤول إلى الجدّية والحدّة بعض الشي, وتابع أبي كلامه, ثمّ إنه ومن باب الرحمة سأطلب من المساعِدة اعانها الله على يأسك وقنوطك أن تقوم باصطحابك إلى المشفى لإستكمال علاجك؛ فقد اتضح لي بأن وجودي لا يفرق معك أبدا ً بعكس أمك التي كانت تعني يداي لها الحياة, انظر يا آدم ثم ّ جعل عينيه يوازيان عينيّ: لقد سئمت من دلالك وقنوطك, ما زلت صغيراً أتقبّل هذا الأمر, ولكنّ والدتك أخبرتني ذات يوم عندما كنت مريضا ً بالزكام, أن لا أقلق عليك, فتعجبّت منها قائلا ً: وكيف لي أن لا أقلق يا مرجان ألا ترين وضع الطفل المُحرج, شدّت على يداي حينها وقربتني منك وقالت: إن الأطفال أشّد صفاءاً ونقاءاً يا ريان مما نعتقد, إنّ الأمل الذي يحملونه دوما ً في دواخلهم أقوى من أن يهزمه شيءٌ ما بنظرهم, إنّهم يحملون حبّاً للحياة وفضولا ً لإكتشاف ما فيها يمنعهم من فقدان الأمل مباشرة عند أدنى عثرة, إنهم حتى لا يلتفتون للمرض أو المصيبة كما نلتفت لها نحن, إنهم دائما ً ما يتطلعون للأفضل, للمسقبل, للغد المشرق, قلوبهم الصغيرة لا تعرف معنى اليأس والقنوط يا ريان فلا تقلق, سيعود آدم كما كان وأفضل, ثق بالله واصطبر يا عزيزي. بدأت عينياي تتحشرجان بالدموع من جديد, ثم ّ أكمل أبي كلامه, حتّى إن دموعك هذه ما عادت تدب في قلبي الحزن لإنها دموع قنوط وحسب, يبدوا أن امك كانت مخطئة ً بحقّ الكلام الجميل الذي قالته فيك, إنك إنسان ٌ يائس والأشدّ من ذلك أنك طفل, طفلٌ يائس ينتظر الموت برعب, حتى إنك لم تتعلم من تجربة أمك شيء؛ فلم تقل بأنّي سأجابه المرض يا أبي من أجلك, من أجل أن أكمل حياتي معك, إنّ الذي يحب يا آدم لا يترك مُحبّه ويذهب وهو قادر ٌ على مجابهة الذهاب, إنني فقط أشعر بالأسى على مرجان التي كانت تفاخر الدنيا بك بأنك شعلة تفاؤلها الغير منطفئة, أنت لم تخيّب ظني وحسب يا آدم, تأكد بأنك قد كسرت قلب أمك وبعمق ٍ أيضاً, قال أبي كلماته تلك بدموع ٍ حجريّة والتفت إلى المائدة.

دوّى صوت بكائي بعد كلام أبي وتابع هو إفطاره بدون ان ينبس بطرْف كلمة وصعدت أنا إلى غرفتي أسترجع كلام أبي بألم وأبكي, الغريب في الأمر أنّ أبي لم يبادر بتهدئتي ولم يحاول كعادته منعي من البكاء بحرقة, أدركت ُ حينها أن أبي قد كان صادقا ً في كل كلمة ٍ خرجت من قلبه, وأن حدته في الكلام معي لأول مرّة بعد ذهاب أمي جائت نتيجة عيار ٍ قد انفجر لديه بسببي, كنت كلما تذكرت كلام أمي له عن تفاؤلي واملي بالحياة أزداد امتعاضا ً وألما ً, صرخت ُ قائلا ً أعتذر يا امي, أعتذر فقد كسرت ُ قلبك بالفعل, أرجوك ِ سامحيني, فأنا لم أقوى في حياتي إلا بك وبأبي والآن بعد ذهابك وبوحشية المكان الذي تركته في قلبي ازداد خوفي من الحياة بشكل مرعب, أرجوك ِ سامحيني وكوني معي روحا ً وليلامسني طيفك عند كل ضعف, أعتذر يا أمي, أعدك بأن أعيش طويلا ً وأنا أحيا بسلام ٍ أعدك! حتى لو كانت نهايتي الموت فسأحيا متفائلا ً وأموت ُ على بسمة ٍ مثلك, سأحيا لأحيي بسمتك في قلب أبي, سأحيا وسأحارب السرطان من أجله كما كنت أنت, أنا وليد جوفك, أنا نتيجة أملك أنا بذرة تطلعاتك’ أعدك بأن أحيا لكما أنت ِ وأبي, سأثق بالله كما علّمتني ولن اكون إلا طفلاً راضيا ً غير ساخط ٍ بإذن الله.

قدِمت إلى غرفتي المساعِدة على إثر صوتي, وكالمعتاد سألتني إذا ما كنت أتحدث إلى أحد ٍ ما في الغرفة, فلم أُجبها, لطالما كنت أرى تعابير الخوف في وجهها منّي, حتّى إنني ظننت ُ يوما ً بأنها ستقوم بمغادرة المنزل إلى الأبد بعد أن وجدتني أتحدث إلى الأرجوحة في حديقة منزلنا, ولكنّها لم تذهب, يبدوا أن أمري لا يعنيها بذلك القدْر الذي تحب فيه مساعدتنا بحق, فقد كنّا منزلاً قد فقد موازيينه ُ بالفعل, سألتها ما إن كان أبي قد غادر إلى العمل فأجابني صوت محرّك سيّارته في المرآب, ركضت على السلم وخرجت من الباب بلا وعي ٍ وناديت ُ أبي بصوت ٍ مرتفع ولكن يبدوا أنه لم يستمع لي فوقفت أمام السيارة وناديته, خرج أبي من السيارة مذعورا ً, آدم, ما بك يا بني؟ لم وقفت أمام السيارة هكذا فجأة؟ لا تخف يا أبي, أجبته انا فأنا لا أنوي الإنتحار بالفعل, أنا ابن مرجان, أنا شعلة تفاؤلكما الغير منطفئة, لن أستسلم يا أبي, سأحارب السرطان من أجلك أنت وأمي سأحيا مبتسما ً وسأموت مبتسما ً, لن أستسلم يا أبي أعدك! فقط سامحني لأنني قمت بكسر قلبك, سامحني فقد أفقدتك معايير أعصابك, أنا أحبك يا أبي, أحبك كثيرا ً ولا أريد ان أخسر ودّك وثقتك, وطأطأت ُ رأسي خجلا ً منه, رفع أبي رأسي بيديه ومسح لي دموعي وابتسمت لي عيناه ُ بدفىءٍ وضمّني إليه وقال مبتهجا ً: نعم هذا هو
آدم الذي أعرفه, هذا هو طفلي الشجاع الذي أفتخر به, لا تعتذر يا آدم, ما فعلته كان من أجلك من أجل أن تقف على قدميك, من أجل أن تهزم ضعفك وتتغلب على مرضك بابتسامتك, كان الله بعونك يا آدم وشافاك الله وعافاك, أنت قادر ٌ على مواجهة هذا المرض بتفاؤل أنا أؤمن بذلك, هيّا الآن اذهب لتغيير ملابسك, ستأتي عمّتك روينا اليوم لتقوم بالإعتناء بك لقد أخبرتني بأنها قد اشتاقت كثيرا ً لشقاوتك, ستفرح الآن جدا ً عند رؤيتها لك وقد عدت من غيبوبة حزنك ويأسك, هيّا قم باستقبالها بودّ, أنا أحبك يا آدم, أنا أثق بك!

 

لوّحت لأبي ومسحت دموعي التي قد تراكمت من جديد على شرفات عينيّ وأغمضتهما وحاولت ُ تخيّل أمي وهي تقف إلى جانبي الآن وتقوم بوداع أبي وضمّي إلى حضنها والدخول بنا إلى إلى المنزل, استنشقت ُ هواء الحديقة العليل وجعلته يُخالط في جوفي الخلايا السرطانية؛ لعلّها تستشعر مدى جمال الحياة في ذرّات الأكسجين فلا تحرمني إيّاها وتتركني وتذهب. كانت أمي تصلّي لله كثيراً قبل ذهابها وقد اخبرتني يوما ً بأن في التأمل روحانيات أيضا ً كما في الصلاة إذا ما أرفقناه بالتسبيح والتهليل ثمّ أخبرتني عن تقاليد صديقتها الإندونسية التي كانت تقوم بالجلوس يوميا ً لمدّة ساعة كاملة وممارسة مهارة الإبتسام عندما فقدت زوجها وطفليها في حادث سير مؤلم, قررت ُ بأن أتبّع هذا التقليد في هذه الفترة فلا شكّ في أنني أحتاجه ُ أكثر من أي وقت ٍ مضى لعلّه يصبح لي عادة متبّعه أكثر مما أنه في العادة تقليد. ما أعرفه ُ بأن أمي كانت تحب الحياة فعلا ً, لقد عاشت عمراً قصيرا ً حافلا ً بالإنجازات على صعيد أسرتها وعلاقاتها وجميع مجالات الحياة التي كانت ترى نفسها متميّزة ً فيها, لقد كانت أمي إحدى الأعضاء الفاعلين التي تقوم على رعاية كبار السن ّ والأيتام, حتّى إنها كانت تُعنى بشؤون المرأة أكثر من أي شيءٍ آخر, فقد كانت تحب الوقوف إلى جانب النساء المظلومات نفسيا ً وجسديا ً فقد كانت تكره الظلم والسواد بشكل عام ولطالما أوصتني قائلة ً : إحرص على فطرة النقاء التي خُلقنا عليها يا آدم, لا تسمح لأي لطخة سوداء بأن تُعيق مسار حياتك يا بني, حارب الظلم يا آدم ولو كلّفك ذلك حياتك. إستذكار ُ كل هذه الصفات عن أمي جعلني أخجل من نفسي لضعفي, فأنا ابن إمرأة قويّة بكل ما للكلمة من معنى, لن أخذك يا أمي قلت ُ في نفسي لكي لا تهابني المساعدة تيرا إلى أن اخترق عالمي صوت عمّتي قادمة ٌ من خلفي, التفت ُّ إليها بإبتسامة بعد اكثر من شهر لم ترني فيه أبتسم لها وضمتّني إليها وأخبرتها بصوت ٍ حنون, لن أستسلم عمّتي, سأبقى معكم أعدك! فقط قومي بالدعاء لي وسيكون كل شيءٍ على ما يُرام, سأدعوا لك آدم أعدك صغيري قالت عمتّي ثم ّ دخلنا إلى المنزل وبدأت هي بمساعدة تيرا لتحضير حساء الخضراوات الذي أحب واندمجت ُ أنا في عالم صور أمي في ذلك الألبوم الذي عنونتة بـ ” رحلة حياة ” لفت نظري صورة ٌ لها مع عجوز ٍ مسنّة وطفل صغير فافترضت ُ بأنها إحدى العائلات التي كانت تقوم أمي بمساعدتها وتابعت رؤية صورها التي حفظتها عن ظهر غيب ولكن لا ضير من المزيد من النظر. أخبرتني عمّتي بأنها تنوي توزيع حاجيّات أمي كما أخبرتها في وصيّتها الأخيرة بعد الموت لدار رعاية المسنين ولجمعية حماية الأسرة, سألتها في ما إن كانت تحتاج إلى المساعدة ولكنّها أخبرتني بأن أرتاح وستأسلني مساعدتها فيما إن احتاجت ذلك, تناولت الحساء الجميل الذي أعدته لي عمّتي اللطيفة بمساعدة من تيرا وجلست ُ أنا فيما بعد أراقبهما وهما يقومان بترتيب ملابس أمي وحاجيّاتها في سيارة عمّتي, أمسكت بيدي عمّتي واعتذرت منّي قائلةً: أنا متأسفّة يا آدم لأننا فقدنا مرجان بهذا الشكل, ولكن أمك كانت مفتاح خير للآخرين ولولا وصيّتها لما قمت بأخذ أغراضها من أمامك بهذا الشكل, اليوم مضى على وفاة أمك أربعين يوما ً ومن الجميل أن نقوم بإسعاد النساء المحتاجات ليقمن َ بالدعاء لها في مرقدها, قلت لها: لا عليك ِ عمّتي لا تعتذري فقد أدركت ُ الآن بأن أمي عاشت صاحبة رسالة جذورها في القلوب وثمار جميلها على الملامح, أرجوك ِ قومي بهذا العمل على أتمّ وجه كما كانت تحب أمي واكثر, أنا لست ُ بحزين على ذلك أبداً صدّقيني, كل ما في الأمر أنني افتقدها وحسب!! كم أنت شجاع يا آدم, أهنئك على عزيمتك, استمر يا صغيري, أنت لها, أنا أؤمن بذلك!!

أثناء ترتيب عمّتي لمعطف أمي ذا لون القهوة والريش الأسود الراقي, سقطت من إحدى جيوبه ِ ورقة ً صغيرة تناولتها عمّتي وقرأتها على الفور, يبدوا أن محتواها لم يكن مهمّا ً فوضعتها على الطاولة وانصرفت, أثارت فضولي بعض الشيء فذهبت لقرائتها كان قد كُتب عليها ” الشارع 38, منزل رقم 3 ” أدركت بأنه عنوان لمنزل ما ولكن لم أكن قادرا ً على معرفة إلى من يعود المنزل, فكلّ أقاربنا يقطنون في الأحياء البعيدة عنّا وصديقات أمي من الجوار لقد كنت أعرف بيوتهن َّ جميعا ً, لم يكن ذلك العنوان مألوفا ً لي لأحدهم على الإطلاق ولكنّه قريب منّا على أيّة حال, فقد كنّا نقطن في الشارع السادس والثلاثين, كان العنوان الوارد في الورقة لا يبعد عنّا إلا بمقدار شارع واحد, أسكتَ شرود أفكاري صوت محرّك سيارة أبي فركضت إليه وعلى الغداء أخبرني بأنهم يحتاجون لتحليل آخر في المستشفى يوم غد وبأنه سيقوم باصطحابي إليه صباح غد ٍ بإذن الله, أومأت ُ برأسي أي نعم. وسألت أبي ما إن كان يعلم أحدا ً ما يقطن في المنزل الثالث من شارع ثمانية ٍ وثلاثين ولكنّه لم يتذكّر, سألني فيما إذا كان مهمّا ً بالنسبة لي أن أعلم ذلك؛ ليقوم بالسؤال عن ذلك, فأخبرته بأن لا يفعل إنه مجرّد عنوان ورد في إحدى حاجيات أمي, يبدوا أنّه يخصّ الجمعية وما إلى ذلك, أخبرني بأن هذا الخيار المنطقي الوحيد فهي لطالما كانت تذهب لزيارات بعض العوائل في منازلهم ممن كانوا لا يقدرون على الذهاب لملاقاتها في مقرّ الجمعية أو لا يفضّلون ذلك للحفاظ على خصوصية أنفسهم وسريّة أخبارهم.

 

 

بقلم: رنا مروان – (الأردن)


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com