|  آخر تحديث أغسطس 13, 2017 , 11:05 ص

#رنا_مروان | تكتب: “فالقلب ينحاز” (الجزء الرابع)


#رنا_مروان | تكتب: “فالقلب ينحاز” (الجزء الرابع)



نزعت ُ الشريط الذي عطّرته أمي برائحتها وقبّلته ووضعته ُ جانبا ً وبدأت فك ّ لاصق المغلّف الذي تكاثف عليه الغبار وتناولت محتوياته التي كانت عبارة مفتاح ٍ ذهبي ٍّ متوسّط الحجم ذا بداية ٍ متعرجّة جميلة, كان يشبه تلك المفاتيح التي نشاهدها في الأفلام ونراها على أغلفة الكتب التاريخية, بدى مالوفاً لدي وكانني شاهدته في مكان ما من قبل!! ولكنني لم أتذكر متى وأين رأيته بالضبط, أخذته ُ وإلى جانبه ِ كان هنالك ورقة ٌ صغيرة قد كُتب عليها الخزانة الثانية أسفل شاشة عرض الأفلام في الطابق الأرضي! أصابني الذعر الحُلو نوعا ً ما فقد سعدت لأنني لم أجد ورقة قد حفّت بكلمات الوداع من أمي وفي ذات الوقت أصابني الإرتباك لمكنونات الخزانة التي تركت مفتاحها أمي في هذا الظرف لكي لا يقوم أحد ٌ بفتحها قبلي, تناولت مصباحي الصغير من درج طاولتي وذهبت ُ باتجاه السلَّم رويدا ً رويداً لمحاولة عدم إيقاظ أبي إلى أن وصلت إلى تلك الخزانة التي أشارت إليها أمي وأخذت أفتحها إلى أن إنفك َّ قفلها وفُتحت من تلقاء نفسها وصدر صوت أمي منها قائلا ً: أهلا ً بك يا صغيري خذ نفسا ً عميقا ً قبل النظر إلى مكنونات الخزانة يا بني ولا تبكِ أرجوك!! ذهلت ُ قليلا ً وبالطبع تجاهلت رجاءها وبكيت حال سماعي لصوتها ولكن ّ ذهولي لم يدم طويلا ً فقد كان جدّي والد أمي مصمما ً تقنيّا محترفا ً بهذه الأمور, الخزنات السريّة وأنظمة الصوت وما إلى ذلك. أومأت ُ برأسي قليلا ً إلى الأسفل فظهرت لي صورة رقمية لأمي تبعث فيها قبلة تجىء وتذهب باستمرار قبّلتها حبيبتي, وقد كان في الخزانة ألبوم صور وذكريات لنا كعائلة وفي داخله قد وجدت قرص مرن قد كُتب على حافّته ” رحلة حياة ” إلى بني!! أخذت القرص وبدأت تفقّد ما إن كان يحتوي الألبوم على رسالة أو ما شابه ولكن لحسن الحظ للمرّة الثانية لم أجد أيّ شيء, الآن فهمت ُ لم أصرّت أمي قبل شهر ٍ من وفاتها على وضع هذه الخزانة تحت شاشة العرض مباشرة, يبدوا أنها كانت تخطط لهذه اللحظة منذ زمن!! أخذت القرص وفتحته بواسطة مشغّل الأقراص ووضعته في مكانه برفق وجلست على الأريكة لأرى ما يُخئبه.
 

بدأ العد ُّ التنازلي ثلاثة, إثنان واحد وظهرت أمي بجمالها وهي تحاول تعديل وضعية الكاميرا ثم قالت مبتسمة إبتسامة سحريّة: مرحبا ً بني كيف حالك؟ أتمنى أنني لم أقم َ بازعاجك بهذه الفكرة المُبتكرَة بعض الشيء ولكنني فكّرت بأنّه من حقك أن تعلم بأنّي لم أتركَّ طواعاً وأنني لم أرغب بمفارقتك أبدا ً ولكن بما أنك تستمع لهذه الكلمات الآن فهذا يعني بأنني الآن قد غادرت فعليا ً وقد كسرت ُ قلبك بالفعل, أوقفت الفيديو وفي عيني ّ شلّال ٌ من الدموع المتناثرة على وجهي بلا توقّف, فكّرت في إغلاق الفيديو والنظر إليه حال استعدادي لذلك ولكني أدرت جهاز التشغيل بالخطأ وصدر صوت أمي من جديد وهي تقول بكل رقّة والدموع تتجمع في عينيها مثل أمطارٍ تنصّبُّ في مضيق ٍ لتنهمر في شلال سحيق: لا تبك ِ يا بني انظر أنا هنا أمامك أخاطبك ضع يديك على قلبك وستشعر بي من خلال نبضك أعدك, مسحت ُ دموعي وسألتها لم َ رحلت ِ يا أمي؟ أجيبيني ما هو ذلك العذر الذي قوي َ عليك ِ وستقومين بتبريره لي الآن بلا معنىً بالنسبة إليّ؟ قاطعني صوتها وهي تقول: لا شك َّ بأنك الآن تقوم بمعاتبتي بصوت ٍ ملىءٍ بالحسرة ولكنني لم أذهب طواعاً يا بني َّ صدّقني, لقد ألم َّ بي مرض ٌ شديد ٌ يا صغيري أتمنى بأن تسمع اسمه ُ منّي فقط وأن لا تعرفه طوال عمرك إنه ” سرطان الدم ” لقد كان قويا ً بالفعل يا بني, حاولت مجابهته ُ أنا ووالدك بشتّى الوسائل ولكننا لم نفلح في ذلك لقد كان علاجه قوي ٌّ لدرجة أنُه كان هو المسؤول عن شحوب ِ لون وجهي الذي كنت أبرره لك بمشقّة العمل, لقد كان كالسّم لا كالعلاج يسري في عروقي, يُفقدني شهيتي ويحول دون طمأنينة نومي, صدّق بأنّي رغم كلِّ ذلك تحمّلته لأجلك لكي أتمكن من الحياة معك أطول فترة ممكنة, لقد كان يسبب لي الآم العظام والمفاصل التي اعتذرت بسببها عن معظم نزهاتك المدرسية والتي كان يفترض بي مرافقتك بها بكل ود, لقد أفقدني نصف شعري وسبب لي الحمى المزمنة التي كان يحاول والدك تفاديها ليلا ً قبل استيقاظك, أعلم بأنّ شرح هذه التفاصيل أمر ٌ مزعج ٌ بالنسبة إليك ولكن كان هذا بالفعل ما أخذني منك يا صغيري, حاولت عدم إظهار مرضي لك عنوة ً حتى لا تتهالك نفسيّتك, جرّبت الجهاد بمفردي ضدّ هذا العدو السرطاني الذي غزى أوردتي حتّى أصغر عروقي ولكن لم ينفع, كل ما في الأمر أنني كنت أزداد سوءاً مع مرور الوقت وحين أخبرني الطبيب بأنّ حالتي قد وصلت إلى مرحلة لا يمكن السيطرة عليها بعد الآن جهزت هذا الفيديو لك قبل أن أذهب دون توضيح ٍ يساعدك على تقبّل الأمر ومسامحتي, أنهت أمي كلامها بأغنية ٍ لطالما غنّتها لي قبل نومي وأوصتني بالحفاظ على نفسي لأجلها وأن أهتم بصحتي وبدروسي وأن أرعى أبي في غيابها وأن أحن ّ عليه وأوضحت ُ بأنّه كان أشجع رجل ٍ عرفته ُ في حياتها؛ فقد ساندها وذهب معها إلى كافّة جلسات العلاج الطويلة واهتم ّ بنفسه وبعمله وبطفله وببيته دون َ أن يُشعر أحد بأنّه كان مكسور القلب والخاطر, وأخبرتني وهي تبكي بأنها عاشت إلى جانبنا انا وإيّاه أجمل أيّأم عمرها بالفعل وبأنها ما كانت خائفة من الموت بقدر ما كانت خائفة من الإشتياق لنا وهي غائبة عنّا, وختمت الفيديو بقولها: لا تحزن يا صغيري بعد إنطفاء الشاشة فأنا لا تقوى على حملي الشاشات ُ ولا الأقراص المدمجة أنا هنا وأشارت إلى قلبي ثم ّ قبّلتني وقالت وداعاً بني, سامحني, وبدأت صورتها تتلاشى إلى أن اختفت من جديد وصرخت ُ أنا بأعلى صوتي: أمي, أمي أين ذهبت, أرجوك ِ عودي يا أمي, أرجوك ِ ارجعي إلينا فنحن ُ لا شيء بدونك, أرجوك ِ أمي أرجوك ِ!! كانت هذه هي المرّة الأولى التي تفجّر فيها حزني بأعلى صوتي وبكيت كثيرا ً إلى أن بدأت الشاشة بعد ٍّ تنازلي ٍّ جديد ٍ’ ظننت ُ بأنه الفيديو ذاته يتكرر ثم َّ اتضح لي بأنه فيديو آخر يُظهر فيه أمي وهي في مراحل العلاج وكيف أنها كانت تئن في المشفى قائلة ً لأجلك يا بني, سأحارب السرطان حتى أعود إليك, والعديد من الفيديوهات ذات العبارات المتفائلة والمواقف المؤسفة, زادت وفرة دموعي بعد مشاهدتي لها وهي على فراش الموت الذي سلبها مني إلى أن سقطت ُ أرضا ً لأستيقظ في الصباح التالي بين يدي أبي وقد بدا انتفاخ عينيه هو الآخر بسبب البكاء, بدا لي كل شيءٍ وكأنه كابوس واستيقظت منه بعد صراع طويل, مرض أمي, كلامها لي البارحة, موتها, كل شيءٍ بدا في اليوم التالي وكأنّه يسخر منّي بطريقة ٍ لطيفة؛ أي انك هنا وقد ذهب كل شيء من أمامك ليلة البارحة, شعرت في هذا الصباح وكأن أمي كانت أقرب إليّ, شيءٌ ما كان يخبرني بأنها بجانبي أو عند الباب تناظرني أنا وأبي وبدأت أسمع أصوات ِ أقدام ٍ صاعدة ٍ من المطبخ بإتجاهنا, أذكر بأنّي تهيأت ُ سماع صوت أمي وهي تنادي عليّ فصرخت أنا برعب ٍ: أمي, أمي أين أنت ِ أنا لا أراكِ هل تسمعينني؟! ثمّ استيقظ أبي بفعل صراخي وضمنّي إلى نفسه وقال: صغيري عد إلى رشدك أرجوك, هيّا كفّ عن الصراخ, انظر أنا هنا بالفعل أنا بجانبك ولن أتركك ما حييت. أخبرته بكلمات ٍ متقطّعة: أبي لقد سمعت أمي وهي تنادي عليّ ألم تسمعها أنت! لقد كانت هنا ليلة البارحة لقد أخبرتني كل شيء لقد تقطّع قلبي يا أبي, لم أعد أستطيع ُ تحمّل أي شيءٍ إضافي, لقد أُرهقت بالفعل أحتاج لأخذ استراحة ٍ من كل هذه المآسي, أحتاج بأن أذهب عند أمي, صرخَ أبي في وجهي قائلاً: لا لا تقل هذا يا بني, لن تذهب إلى أيّ مكان وستبقى هنا معي, وضمنّي إليه وقال باكياً: من لي غيرك َ يا صغيري, أجبني!! من لي بعدك هيّا قُل؟! شعرت ُ في تلك اللحظة أنَّ الأدوار قد انقلبت وأنَّ عليّ احتضان أبي بذات القوة التي كان يشّدني بها إليه, مسحت دموع عينيّ وقلت ُ له يا أبي: لقد هذيت ُ سامحني, صدّق بأني لم أقصد الرحيل بالمعنى الذي فهمت, أنا هنا من أجلك وأنت هنا من أجلي ونحن معا ً إلى ان يفنى العُمر, أعدك! وقبّلته من جبينه ِ وعدت إلى فراشي من جديدٍ محتضناً وسادتي فقد كنت أشعر بضعف ٍ شديدٍ كان يعتصرني. أخبرني أبي بأنه قد أغلق الخزانة وقد وضع المفتاح أعلاها وبأنه ذاهبٌ الآن لملاقاة صديق ٍ له من خارج البلاد رغم أنني سمعته يتحدّث إلى الطبيب ويقول له ُ بأنّي قادم ٌ على الفور لرؤيتك وقد بدا عليه الإرتباك, ودّعني أبي وقد شعرت بعدها بقشعريرة ٍ تهز ُّ كياني المرهق ومفاصل جسمي المنهكة.

 

بعد ساعتين من خروج أبي قدمت إلينا عمّتي وقد بدا لونها شاحب ٌ للغاية, استقبلتها المساعدة من على الباب وصعدت عمّتي مباشرة باتجّاه غرفتي, شعرت ُ بها تتحسس حرارتي, وتنادي علي ّ بصوت دافىء, آدم, آدم هيّا استيقظ يا صغيري عليك الإستحمام على الفور فقد ارتفعت درجة حرارتك, كانت عمّتي روينا المفضّلة بالنسبة إليّ, تمسكّت بيديها وأدخلتني في الماء إلى أن انخفضت درجة حرارتي, أخبرتها بأنّ السبب قد يكون في بكائي الكثيف ليلة البارحة, قبّلت وجنتني وضمتني إليها قائلة: آه يا صغيري, أعانك الله على هذه الإبتلاءات المتواصلة, لم أفهم ما قصدته بالضبط إلا أنني نزلت ُ معها إلى المطبخ لتناول أدويتي ولمشاطرتها وجبة الغداء التي صنعتها لي بنفسها. جاء أبي وهو يحمل في يديه أوراق تحليل كبيرة فأخذني من على الطاولة ووضعني في حضنه وقال لي: انظر يا آدم, لقد جاءت تحاليلك سلبية للغاية وللأسف يتوجّب علينا الآن ملازمة علاج ٍ في المستشفى إلى جانب الإهتمام بصحتك, حزنت قليلا ً وسألته ما إن كان سبب هذا التشديد تقصيري تجاه صحّتي وحسب!! أخبرني بأي: نعم!! كان يجب عليك َ أن لا تُهمل صحتك لأي سبب ٍ كان, والآن يجب علينا البدء بعلاجك غدا ً في الصباح الباكر إن شاء الله, أومأت برأسي أي حسنا ً وضمّني أبي إليه ونظر إلى عمتي نظرة ألم وحسرة وشعرت حينها بأنهما تقاسما ألم سرٍّ خطير يُخفيانه ِ عنّي, لم أكترث لذلك: فإن كان في الأمر ما يدعوا للقلق فسيتضح عاجلاً غير آجل, هذا ما كانت تقوله أمي دائماً.

في الصباح الباكر أيقظني أبي وتناولنا طعام الإفطار سوياً برفقة عمّتي التي بقيت معنا ليلة البارحة, تفقّد أبي فمي بحجّة أنّه كا يتفقّد أسناني بصفة عامّة للمراجعة السنوية وأخبر عمّتي بصوت ٍ هادىء: الحمد لله يا روينا فلا تضخّم في اللثة لديه ولا نزيف. تنفسّت عمتي الصعداء وقالت بصوت أشج الحمد لله يا ريان فانتبه لأنصاتي لهما أبي وأخبرني بأن أسبقه إلى السيارة. خرجت من الباب ووضعت ُ قدمي لأول مرّة بعد وفاة أمي خارج أسوار البيت الذي احتواني يوماً ما وإيّاها بكل هناء, تذكّرت كلام أمي لي البارحة: عش طويلا ً يا آدم, عش بسلام!! تمتمت ُ في داخلي: أي سلام ٍ هذا الذي تحدّثت ِ عنه يا امي بعد هذا الظلام الذي تركته ِ لنا بعد ذهابك وكالعادة قاطع شرودي صوت والدي وهوه يُخبرني ما إذا كنت أرغب بالذهاب لزيارة أمي قبل ذهابنا إلى المستشفى فأشرت ُ له برأسي أي لا!! فقال لي: حسناً يا بني كما تريد, هيا ضع حزام الأمان نحن ذاهبون.

حاول أبي كسر جدار الصمت الذي كان يكسوني بالتحدّث إليّ طيلة الطريق عن أشياء ٍ كنت لا أصمت عن التحدث بها قديما ً ولكن بلا جدوى؛ فقد كانت عيناي على الطريق وروحي هائمةٌ في ذكرى البعيد والقريب. أخبرني أبي بعد مدّة لا أستطيع ُ أن أحصيها لكثرة شرودي بذكريات أمي وأجوائها التي كانت تضفيها على كل الوقت الذي كنّا نمضيه بالسيارة إذا ما كنّا ذاهبين لأي مكان بأننا قد وصلنا وأن علينا النزول الآن. أمسكني أبي من كتفاي َ أمام باب المستشفى أثناء سيرنا وركع على ركبتيه وقال لي: انظر يا آدم إلى داخل عينيّ وأخبرني ماذا ترى؟ أخبرته بصوت ٍ منخفض: أرى أمي يا أبي, صدّق بأنّي أرى أمي!! أومأ برأسه أي نعم, وماذا أيضا ً؟ الأمل, التفاؤل, الإيمان ربمّا وبعض الإرتباك!! ما بك يا أبي؟ أهناك أمر ٌ ما عسير ٌ تُحاول إخباري به ولا تقدر خوفا ً على مشاعري؟ أخبرني يا أبي صدّق بانّ روحي قد حُقنت بالأحزان إلى أن تخدّرت وما عادت قادرة على الإحساس, أخبرني وحسب لا تهتم. قال أبي: لا, لا يا صغيري أنا فقط لا أحب أن أراك بوضع صحي ٍّ سيء أنا فقط أخشى أن يفوتك قطار الحياة وأنت تتخبط بين جدران البيت والمستشفيات بعيدا ً عن كل ما يُمكنك عيشه ُ والإستمتاع به, قلت له: لا متعة لي بدون أمي يا أبتي, هيّا انهض لنبدأ العلاج لألاحق قطار الحياة كما تفضّلت!! أمسكني من يدي ومشينا باتجاه الطبيب, كان كلُّ من في المشفى من ممرضين وأطباء يقومون بتعزية أبي والإعراب عن بالغ حزنهم لما ألّم بأمي, سألت ُ أبي ما إن كان هؤلاء الأطبّاء يعرفون أمي شخصيّا ً وما مدى معرفتهم بها إذا ما كانوا مستائين لهذه الدرجة, أخبرني أبي بأنهم يعرفونها من بضع زيارات تشخيصية وقد أثّرت فيهم أمي بحلاوة روحها كالمعتاد ثم ّ قال: ألا تعرف كيف تنساب طيبة أمك في روح الإنسان مجرّد مقابلته ِ لها, أومأت رأسي بحزن وطرقنا باب غرفة الطبيب ودخلنا, أجلسني أبي في حضنه بعد السلام على الطبيب, وبدأ هو بدوره يتلوا كلامه المعتاد من كيف حالي وبماذا أشعر وما إن كان هناك ألم يسقّر في مكان معيّن في جسدي, فأخبرته بكل شيء حتّى حمّى البارحة, تناقشنا كثيراً إلى أن خاطبني الطبيب بصفّة خاصّة: انظر يا آدم, لقد مرّت عليّ حالات كثيرة ٌ بمثل مرضك هذا وقد تعافوا الآن وهم في صحّة جيدة, لقد كانوا يؤمنون دوما ً بالأفضل وكان حب الحياة يبرق في أعينهم أقوى فأقوى مع كل ِّ جلسة ٍ للعلاج وقد كانوا أقوياء بحق, حتّى لإني قادر ٌ على تنظيم مقابلة لك مع أحدهم ليخبرك بقصّته كاملة ً لتشعر بعدها بالدعم ولتزداد همّتك, ما رأيك؟! أجبت ُ الطبيب مستغرباً: أشكرك حضرة الطبيب ولكنني أرى في كلماتك هذه مبالغة كلّ ما في الأمر أن ّ دمي منخفض وسيقوم بالتحسّن كما كان عليه من قبل بعد العلاج والغذاء الصحيّ إن شاء الله, لا أعلم إذا كان هذا الأمر يتطلب سماع قصّة مكافحة من أحد ٍ ما قد اعتاشه قبلي, أنا فقط أريد العلاج والإياب إلى المنزل على الفور, أومأ الطبيب برأسه وكأنه قد فهم أمراً ما لم أقصده في كلامي وقال لي: لقد فهمت, أنت على حق فأنت لا تعلم أن هذا المرض قد يتطور إلى حالة مزمنة إذا ما آمنت بشفائك منه وعلاجك من مضاعفاته, قلت له: لا عليك, أنا على ثقة بأن الله لن يتركني أتعذب في دنياه ما حييت, قال أبي متنهدّاً: إن شاء الله يا بني, إن شاء الله.

 

أدخلني أبي إلى غرفة المعالجة وقد أخبرني الطبيب بأن عليه أخذ خزعة ٍ لأنسجة نخاع العظم وذلك لمعرفة نوع المرض الذي أصابني بالتحديد, لقد كان الأمر مؤلماً ولكن لا ضير سينتهي كل شيء كنت على أمل!! ثم ّ قام الطبيب بوصف وحدة مضادات حيويّة لي وطلب مني الإسترخاء إلى حين انتهائها, خلال تلك المدّة سمعت ُ أبي يتحدّث إلى الطبيب سائلاً إيّاه عن موعد صدور نتائج التحاليل, تفقّد الطبيب ما إن كنت غافيا ً أم واعيا ًمن طرْف الباب, جعلته يتهيأ بأنّي كنت أغطّ في نوم عميق, فخاطب أبي معاتبا إيّاه: لماذا لم تقم بمصارحته بحقيقة الأمر يا سيّد ريّان, بعد أيّام ٍ قليلة ستبدأ مضاعفات العلاج والمرض تطفوان على جسده بماذا ستبرر لطفلك كل تلك الأمور, كما أننا بحاجة ٍ إلى العديد من الفحوصات للوراثيات الخلوية لتحديد ما إذا كان يتواجد بعض المشاكل الوراثيّة بالإضافة إلى فحص ٍ للبزل القطني؛ وهو فحص للسائل الشوكي المحيط بالدماغ والحبل الشوكي, وهذا الفحص مهم ّ لمعرفة وجود خلايا سرطانية بالجسم, كيف سنتمكن من الإجابة على أسئلة طفلك حينها إذا ما سألنا عن ماذا ولماذا نفعل كلَّ هذا! سمعت ُ أبي يبكي بحرقة ويقول للطبيب: هل هناك أمل ٌ من استرجاع عافية طفلي بأقل الخسائر, أرجوك حضرة الطبيب أخبرني بأنه سيحيى عمراً طويلا لأرى أحفاده إن شاء الله, هدأ صوت الطبيب وسمعته يطبطب على كتفي أبي ويخبره بأن: لا تيأس أبا آدم إن الله على كل ّ شيء قدير.

 

 

بقلم: رنا مروان – ( الأردن ) 


3 التعليقات

    1. 1
      ويج آلجهني

      أحزنني كثيراً ماحدث مع آدم ، وحجم معاناته ، هذه هي الدنيا ليست جميلة للجميع ، اسأل الله أن يلهم كل من فقد عزيز الصبر ، وكل مريض بالأمل ، أحسست كثيراً بكلماتك ، دمتِ بخير 🕊.

      (0) (1) الرد
      1. 1.1
        رنا مروان

        أشكرك على إطرائك الجميل وأتمنى بأن أبقى دائماً عند حسن ظنكم.
        بالفعل هذا هو حال الدنيا, وما دفعني لكتاية هذه الحكاية هو تأثري بمرضى السرطان وما يخلفونه من عذاب وألم لدى أحبابهم وذويهم وأصدقائهم, للحكاية تتمة كبيرة أتمنى بأن تشاركيني رأيك في كل جزء, دمت بألف خير .ق

        (0) (0) الرد
      2. 1.2
        RanaMarwan

        أشكرك على الإطراء الجميل وأتمنى بأن أبقى دائماً عند حسن ظنكم.
        بالفعل هذه هي الدنيا, وما دفعني لكتابة هذه الحكاية هو تأثري بمرضى السرطان وما يخلفه المرض من آلام نفسية لدى ذويهم وأحبابهم, للحكاية تتمة أتمنى بأن أرى رأيك فيها على الدوام, دمت بألف خير وصحة وعافية.

        (0) (0) الرد

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com