بعيدا ً عمّا تسوّقه قنوات الدراما بمسلسلاتها الفارغة من الحب قريبا ً مما يشبه الواقع بطبيعته المرَّة ولعلها الأفضل بكونها صادقة, بعيدا ً عمّا تغنّى به الشعراء والموسيقيون من معان ٍ لكلمة حب قريبا ً مما تتغنى به الأيام والحقائق الموجودة على أرضية الحب, بعيدا ً عن تلك العبارات التي اجتاحت عالمنا وعقولنا ونهشت ضمائرنا وقلوبنا السليمة بسخافتها قريبا ً من تلك العبارات التي تختزلها نظرة حب مخلصة, بعيدا ً عن المهزلة التي تتسارع أحداثها في كل يوم ٍ لا بل في كل ساعة ٍ على مواقع التواصل الإجتماعي بأجملها تحت مسمّى الحب والتواصل قريبا ً أكثر من حقيقة أن َّ هذا التواصل ليس أكثر َ من حبّة جوز فارغة؛ توهمنا بأنّها ممتلئة متماسكة وإذ بها بعد َ الضربة الأولى تهوي مكسَّرة ً مهمَّشه، بعيدا ً عن ذلك القيد المهمّش الذي قيّد فكر شباب مجتمعنا ويسموّنه بالحب وبالحقيقي المؤثر من الحب, قريبا ً أكثر َ من رابطة الحب الحقيقية التي تربطنا بمن نحب مهما كانوا وأينما حلّوا مهما ابتعدوا أو اقتربوا, بعيدا ً عن كل تلك المعاني الفكاهية بعض الشيء؛ الفارغة والمُهملَة لدرجة أنّها لا تستحق بأن تُصدَّق يوما ً أو أن يُقال ويُكتب َ عنها بشيء يخص الحب قريبا ً من تلك المعاني المؤثرة التي تُفهم بلا كلام بين المحب ِّ ومن أحب, بعيدا ً عن كل ِّ تلك السذاجة التي تطاول َ بنيانها في هذا العالم والتي يرتفع ُ سقفها فوق َ ذلك العدد المتزايد من رائديها مسمّين ذلك السقف بالحب, بعيدا ً عن كل ِّ تلك المشاعر التي لا تمس الحب بأيّة صِله, بعيدا ً عن النظرة الدنيوية الفارهه بعيون فارغة لمعنى كلمة حب, بعيدا ً عن كل ما تعنيه ِ القشور, قريبا ً أكثر ممّا يحويه جوف البذور, بعيدا ً عن كل ِّ ما يعنيه ِ ظاهر كلمة حب, قريبا ً ممّا يحويه ِ باطن هذه الكلمة وباطن هذا الشعور؛ وفي لحظة ٍ غفلت الإنسانية عنها ومن زاوية ٍ بدأت الإنسانية تغض ُّ الطرف والأبصار عنها, ارتأيت ُ بأن أنظر َ الى الدنيا بعين الحب مسلّطا ً منظاري نحو زاوية الحرب وبعيدا ً عن شاشات التلفاز وما ترنوا اليه ارتأيت ُ بأن أنظر َ كي لا اُخبر؛ ارتأيت بأن أنظر َ حتّى أشعر واُشعِرْ, نعم ارتأيت بأن أنظر الى الحرب بعين الحب متناسيا ً كافّة المشاعر الأكثر وحشية وكافّة المشاعر والأحاسيس الأخرى لأواجه الدنيا بمعنى جديد لأواجه الدنيا بما قد لا يخطر على بال أحد ٍ بأن تحويه كلمة الحب من معنىً في الحرب, نظرت ُ فوجدت الحب أعمق من أن يُقال عنه حب ُّ في عظيم صوره وأبشع من أن يُقال عنه حب ٌّ في أشدّها شناعة وقسوة, وجدته ُ أعمق لدرجة أنني بدأت ُ النظر متناسيا ً كافة المشاعر الأخرى حتى غدوت ُ أنساها في نظري طوعا وكأن الحب منظار ٌ تفرّعت منه رؤية المشاعر جُلِّها فالحب ُّ منظار ٌ تمتلكه ُ قلوبنا فنحن وماهيتنا وما هي جوانب تفكيرنا ونظرنا.
ارتأيت ُ النظر َ الى زاوية ٍ لطالما ظننت ُ بأنها تخلوا بتاتا ً من الحب, فوجدتها تعج بالكثير من صوره ِ حتى آخر قطرة دم ٍ فيه, نظرت إلى أكثر مكان ٍ مظلم ٍ بقسوته ِ وفظيع دخان أنقاضه, إلى مكان ٍ تغادرهُ أرواح أطفاله ِ كعصافير حرّية ٍ تعلوا السماء بصعوبة ٍ ذي جناح ٍ مهمّش مكسور, أو كأزهار ٍ اقتلعت من جذورها دون أيّة رحمه, الى مكان ٍ يُنتزع ُ فيه الرضَّع عن حليب أمهاتهم دون أيّة شفقه فيشربون دون الحليب دما ً أليماً, نظرت ُ ألى مكان يموت فيه البشر على أياد ِ البشر , الى مكان كان البشر ُ فيه متراصيّن كبتلات زهر الياسمين متفاخرين بأصولهم ذي الجذور الطيّبة, الى مكان كان من الأحرى به أن تكون الحقوق متساوية والأعراق متلاحمة, نظرت ُ الى أبشع صور الحب وهي اللإنسانية فكيف للإنسانية القاتلة أن تحوي في جوفها معنى ً واحدا ً صغيرا ً لكلمة حب هذا ما رأيته ُ عندما نظرت بعين الحب الى الحرب, حيث ُ صور الحب هنالك ممزوجة أجملها بأشدّها شناعة ً بأكثرها فظاظة ً ودمويّة.
فمثلا ً هناك الحاكم الظالم قد أحب َّ عرشه وغرَّه مُلكَه والأذلة الخونة من حاشيته ِ وأعمى العيش بمسّرة دائمة ٍ أصلها زائل بصيرة قلبه وزيّن له الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء والكثير من السوء أفكاره ومخططاته ِ الإجرامية ليطبّقها فكانت نتائجها أشد شناعة ً وقسوة ورأى في الرحمة زوال ملكه فاختار َ ما أحبَّه ُ مقابل أن يُبيد َ شعبه ُ الذي نسي َ لوهلة ٍ بأنهم بشر ُ من جنسه وفصله هذا إن لم تتبرأ الإنسانية منه فتحوّلت بذلك المحبّة الى أنانية ٍ وحشّية مطلقة.
وهناك َ حيث روح الإنسان التي كرّمها خالق الأكوان أرخص من شق ِّ تمرة, هناك َ من أحب َّ نفسه ُ وروحه فاختار بأن يُغادر َ بها الى أماكن لعلّها أكثر شفقه لعلّها أكثر تقديرا ً للنفس البشرية المنهكة, فإذا به ِ حب ُّ النفس نراه هنا قد تبدّل الى مشاعر الرحمة وأي ُّ رحمة!! رحمة ٍ كان الأولى بها أن تكون حقا ً مستحقا ً مكرّما ً منذ الصرخة الاولى, منذ البكاء الأول والدمعة الأولى, ولكنّه ُ بات حقّا ً مسلوبا ً يريد الجميع أن يغتصبه , حق ٌ يريد ُ أن يبيدَه ُ غيره لتستمر أنانيته ُ وحبّه الموحش لنفسه.
وهناك َ من اختار َ بأن يعيش وتسلَم َ روحه ُ بطريقة ٍ تضمن له ُ البقاء في بيته ِ ليس سالما ً مطلقا ً وإنمّا بشكل يضمن له نصف حق البقاء في وطنه وهو أن يكون من حاشية الحاكم الطاغية فأحب َّ نفسه ُ لدرجة أنّه ُ أذلها بحبه وأسكنها الضعف والهوان وحرمها العزة والشموخ وكرامة الموت بأنِفَه وعاش َ مكتوف الحيلة وقلّة ذات اليد فلا هو َ عاش انسانا ً مكرّما ً ولا مات ميتة ً مرموقة ً تليق بنفسه البشرية التي جرّدها من الإنسانية فعاش َ ذليلا ً وماتَ مكروها ً بغيضا ً وبذلك نرى حب َّ النفس وقد تحوّل الى مذلّة.
وهناك من عظيم وجميل ومؤلم صور الحب, حيث الأم تجثو على ركبتيها ليحتمي بها صغارها فتختار ُ حبّا ً لها ولفلذة أكبادها الموت َ طواعية ً خشية من أن يمس الموت أرواح صغارها فتسلّم روحها لخالقها وإذ بصغارها ترحل أرواحهم معها في لحظة ٍ واحدة, فما أدمى هذه التضحية وما أشجعها وأنبلها من صورة ٍ لصور الحب المدمية الحجر قبل البشر.
قد يقول البعض متسائلاً أنتهت صور الحب ُّ الجميلة من الدنيا وقلوب أحبتها حتى ننظر الى الحرب بعين الحب ؟! أنتهت المسرّة من صور الحب السعيدة حتّى ننظر الى صوره المؤلمة لنبكي وتدمع لنا عيوننا ؟! ولكنني بت ُّ أرى العالم وقد انصرف َ بفكره وقلبه عن الحرب وبات َ منشغلا ً بالفارغ من الحب فلعلّنا إن أدخلنا الحب إلى الحرب شُدت له ُ أذهاننا لننظر َ الى الحب من جديد بفكر ٍ جديد؛ فالحرب نتاج ٌ عن حب النفس والملكوت الفاني ولولا الأنانية الموحشة لما مات الصغار تحت الأنقاض بلا رحمة ولما انقضَّ الإنسان الوحشي على أخيه الأنسان البريئ كأسد ٍ يحاول اقتلاع روح غزال ٍ يركض نحو الحرية, ولولا حب المال لما رأينا الأطفال يبكون شوقا ً لرؤية أمهاتهم ولما رأينا الرضّع يداعبون عيون أمهاتهم الباردة علو فراش الموت ولما رأى الأطفال أبائهم يدخلون ثلّاجة الموت, لولا الأنانية لما هُدمت الأحلام ولما انطفأت شموع الأمنيات, لولا حب ّ المال والملكوت لما ساد الظلام بيوت الأبرياء يوما ً ولما خيّم الذعر والخوف والهوان في قلوبهم أبدا ً.
في الحرب هناك من أخطأ وأجرم في الحب وهناك َ أيضا ً من أخلص بالحب فأحب بصدق ٍ فأختار التضحية لا الأنانية؛ فلو لو اختار الحاكم شعبه دون َ ملكه لكسب َ كلاهما ولو أحب ّ الخونة ُ أنفسهم بشرف ٍ ضاميّن أصواتهم الى صوت اخوانهم ممن اختاروا الكرامة كوسام ٍ يأخذونه معهم إالى قبورهم لما تجرأ الظالم على التمادي في ظلمه أبدا ولأنهزم في أيّام معدودة سلطانه وجبروته.
في الحرب هناك من استبدل الموت بالحب, كالأب الذي اختار اعدامه مقابل َ سلامة أطفاله, كالشاب الذي اختار اعتقاله ُ مقابل الرحمة بأمه, كالزوج الذي اختار َ تعذيبه على أن لا يمس َّ أحد ٌ روح زوجته ِ بسوء وكالجندي الذي استبدل َ روحه بحرية وطنه . وفي الحرب هناك من استبدل الحب بالحب كمن فارق َ وطنه الذي يحبه لينجو بنفسه التي يحبها, كمن ودّع رفاقه اللذين يحبهم واعتاد بأن يشاركهم ويشاركونه أحلامه بعيون باكية وأفواه ٍ من صعوبة الموقف صامته لينجو بنفسه التي يحبها ولينجوا هم بأنفسهم التي يحبها أيضا ً , كمن فارق حيَّه ُ وغرفته وجيرانه ورفاق دربه وخلّانه وألعابه ليس لأنه لا يحبهم بل لأنه أحبهم بصدق ولأنه اختار أن يغادرهم مقابل أن تبقى ذكرياته الجميلة معهم خالدة ً في قلبه وروحه قبل أن يمسّها الحرب فتحولها الى ذكريات دامية مؤلمة.
في الحرب هناك العديد من صور الحب فكما رأيناها تتأرجح من الأنانية الى الرحمة الى المذلّه فما زال هنالك العديد من الصور المدفونة في جوف النفوس الميتة ذات الأجساد التي تتنفس الحياة بصعوبة ٍ بالغة؛ كحب الوطن, حب العودة, حب الوئام, حب النوم بسلام, حب الكرامة, حب العزّة وحب الحياة وجميعها مشاعر وإن تشتت فهي مشترَكة.
في جوف دوّامة هنالك بذرة حب, تحت كل مدفعية وعلى كل صاروخ, فوق كل ِّ مروحية وعلى كل رصاصة وبين كل تلك الحجارة المترامية في كل مكان حيث لا يخطر على بال أي انسان حتما ً هنالك حب ولولا الحرب لبقيت صورته جميلة ولما تبدلت أي ٌّ من جميل صوره. يكفي فقط أن ننظر َ دوما إلى عيون حامليه دون أن يتفوهوا به لنراه ُ يبرق في عيونهم كشعلة أمل ٍ غير منطفئه. قد يبدوا مصطلح الحب في الحرب مصطلحا ً أجوفا ً ولكن هكذا اختارت بعض النفوس الأنانية المتجبّرة أن تفعل بالحب وبالجميل منه, فمتى ستعود الأنسانية لمسارها الأصلي التي فُطرت عليه وأين وكيف َ سيتجرد الحب من كلمة الحرب هذا ما لا يعلمه الا خالق ومدبّر هذه الأرض.
ودمتم بود
بقلم الكاتبة: رنـا مروان – ( الأردن )