|  آخر تحديث أبريل 11, 2016 , 21:27 م

التراث.. بؤرة الانطلاق الحضاري


التراث.. بؤرة الانطلاق الحضاري



بقلم: د. خالد التوزاني – المغرب

 

 

إن الاهتمام بالتراث “ليس فقط لتفرده، وإنما لأنه متصل بأعماقنا، كثير من عناصره مستمرة في حياتنا الحاضرة، ومؤثرة أكثر مما نتصور”. ومن ثم، فإن استدعاء التراث، هو استدعاء للحاضر والمستقبل، وليس بحثا في الماضي بعيدا عن الراهن أو فرارا من واقع معين، كما أنه بحثٌ ينطلق من الوعي بقيمة التراث وأثره في السياق العالمي المعاصر، والإيمان بممكنات هذا الرصيد التراثي والرمزي في تحقيق التنمية وقدرته على تقديم بدائل جديدة تنسجم مع الخصوصيات المحلية للشعوب والأمم، وذلك تأكيدا لما في التراث من طاقات خلاقة يمكن تجديدها باستمرار والإفادة منها، دون الوقوع في ما يُطلق عليه أحد الباحثين بـــ” “حمى التراث” عند بعض مفكرينا الذين يحوّلون الماضي إلى متاحف، بل إلى قبور”، ولذلك ينبغي الانتقال من تمجيد التراث وتقديسه إلى نقده وتجديده، واختبار قدرته على الاستمرار في مدّ الحاضر بآليات التغيير والمراقبة والتقويم، ولا نقصد أن يتحوّل التراث إلى دور مراقب للحاضر، وإنما نريد منه مشاركا في الراهن، من خلال تجدّده وتلوّنه بمستجدات عصرنا ليظل حيا ينمو ويستمر، ويغدو شكلا من المعاصرة بروح الأصالة لا تخلو من لمسة إبداع تطبع ميزة العصر وإنسان اليوم.

ينبغي للباحثين في التراث عموما وخاصة التراث اللامادي والرمزي، الانفتاح على سياقات العصر الحاضر والانخراط في قضايا الراهن ومستجدات الزمن الافتراضي الجديد والفضاء الرقمي بكل متاهاته وتحديات الواقع الإنساني وآماله وآلامه، والعمل على تقديم المادة التراثية في قالب حداثي عصري يقدم اقتراحات وحلول لواقع معقد ومتشابك، لا أن يتم الاكتفاء بتقديس التراث وتمجيده والعيش في شرنقته في عزلة عن العالم وسياقاته، فالتراث نقطة انطلاق وبؤرة توهّج وإشراق ومنبع فخر واعتزاز، يعيد للإنسان العربي ثقته في نفسه واعتزازه بمنجزات أجداده ورموز حضارته، وأيضا يُدرك من خلال تنوع هذا التراث و عمق غزارته، قيمة المشترك الإنساني، حيث تعايش الإنسان العربي المسلم مع كل الأجناس والأعراق والملل النحل، ووحّدهم الوطن، فصنعوا حضارة إنسانية كانت فخر الإنسان في زمن النهضة الإسلامية، ولا تزال معالمها ظاهرة للعيان إلى الآن في الأبنية والخزانات العامرة بالمخطوطات ونفائس الآثار  ودرر المصنفات البديعة.

 

إن الصراع اليوم بين الثقافات في عالم الإعلام والانفتاح الكوني على كل المجتمعات يعمل على إضعاف بعض الثقافات وإبراز أخرى بحسب حجم الاهتمام وتسليط الأضواء، وقد تنقرض بعض الخصوصيات المحلية أمام زحف الكونية وتيارات قادمة من أقصى الشرق أو الغرب، ولا شك أن التراث العربي الإسلامي يعيش في الوقت الحاضر وضعا يحتاج لمن يشخِّصُه بموضوعية والتزام بعيدا عن أي خلفية سياسية أو إيديولوجية أو نفعية ضيقة، من أجل كشف النقاب عن مؤهلاته التي يمكن أن تخدم الإنسانية اليوم في مختلف تجلياتها وأبعادها، ونستطيع القول إن الحديث عن التراث العربي الإسلامي هو نفسه أحد التحديات الكبرى التي تواجهها الدول العربية نظرا لانشغال معظم المثقفين والباحثين بقضايا مستجدة نابعة من الانبهار بثقافة الآخر، دون التفات لما في التراث من منابع العلم والنهضة والتجديد.

 

من الواضح أن التراث العربي باعتباره ثقافة إسلامية، لا يتعلق بحصيلة الإبداع في الفكر والآداب فحسب، وإنما يشمل حقول الصنائع والأعمال اليدوية وسائر المهن والفنون، وأيضا مظاهر الحياة الاجتماعية في أبعادها المختلفة، ذلك “أن الثقافة ليست مجالا واحدا، بل مجالات عديدة، والأمم تتفاضل في نصيبها من هذه المجالات، ولا شك أن ثقافات الشعوب والأمم تمثل ثروات لامادية تفتخر بها تلك الشعوب وتستمد منها عناصر القوة والارتقاء والصمود أمام التيارات الوافدة والأفكار الدخيلة، ومن الأكيد أن التراث العربي قد شكَّل  على الدوام ثروة لامادية مؤهلة للإسهام في نهضة العرب والمسلمين في عالم اليوم إذا أحسنوا استثماره، خاصة وأن هذا التراث الزاخر والغني قادر على تقديم حلول لواقع معقد، يتسم بالتشابك بين تيارات وافدة وثقافات دخيلة، والجدير بالذكر أن تلك الثقافات الوافدة في سياق الحداثة والانفتاح وثورة الاتصال تجد من يدعمها ويقويها ويحميها، في حين تظل التراث العربي الإسلامي يصارع لوحده داخل هذا الخضم، ولا يجد من يسانده أو يرفع لواء كشف كنوزه وذخائره إلا القلة النادرة.

ومن هنا فإننا نثمن عاليا كل الجهود الكبيرة التي تبذلها الإمارات العربية المتحدة في خدمة التراث الإسلامي، من خلال تأسيس مراكز متخصصة وإصدار دوريات علمية في مواضيع مرتبطة بروافد التراث وتجلياته، فضلا عن تنظيم مسابقات ودعم منشورات وتشجيع الباحثين للكتابة في التراث، وهي مبادرات رائدة في هذا المجال، أسهمت في رفع الوعي بقيمة التراث.

 

إن الاهتمام بالتوعية والتحسيس والتربية على حماية التراث، يشكل دعامة قوية لنجاح كل ترميم للعمران والبنيان وإعادة هيكلة للبنية التحية في المدن التاريخية القديمة بالوطن العربي، حيث لا تعيش هذه المدن خالية من السكان، وإنما تعرف كثافة سكانية وافدة، لا تملك ثقافة تراثية أو معرفة بخصوصيات المكان الجديد المستوطنة فيه، علما أن أغلب تلك الفئات تنحدر من قرى مجاورة أو مناطق نائية، دفعها الجفاف أو الفقر  إلى النزوح نحو المدينة، فكانت لهذه الهجرة انعكاسات سلبية على المجال التراثي، وعلى الرغم من كل تدخلات الجهات الوصية على التراث من خلال أشغال الترميم، إلا أن هذه الجهود تظل محدودة النتائج بسبب إكراهات العقلية الجديدة المستوطنة في المكان، والتي لا ترى في الفضاء سوى جغرافيا الاحتماء من البرد والاختفاء من قسوة الزمن الصعب في دروب مظلمة وبقايا أسوار و دور مهجورة مجانية الإيواء أو بيوت منخفضة الإيجار، مما يؤدي في أحيان كثيرة لتغيير المعالم وطمس الرموز التاريخية من كتابات وزخارف وهندسة لها خلفية جمالية وروحية ودلالات تاريخية، فضلا عن تخريب بعض الآثار وضياع كثير من الأدوات ذات القيمة الرمزية الكبيرة، فيتحوّل المجال إلى بناءات جديدة مشوّهة تحاول محاكاة نمط الحياة العصرية الجديدة، فتتحول وظيفة بعض الأمكنة وتتعرض للمسخ، ويضيع التراث، مما يفرض ضرورة إقرار التربية على حماية التراث، وتكثيف حملات التحسيس بقيمته.

هكذا، لم يكن التراث العربي ترفا أو  بحثا في الجماليات، بقدر ما كان ضرورة، “باعتبار التراث ملاذا تؤول إليه الأمة عند الشدائد، يضم صفوفها ويوحد هدفها ويشحنها بالطاقات اللازمة عند التعبئة، ثم هو ملك جماهير الأمة وخيط الاتصال بها على الدوام، ولا حق لأحد في أن يسلبها إياه، ولعل هذه الميزة التي يحظى بها التراث، تجعله متقبّلا عند الناس، يتفاعلون معه بشكل عفوي وحماسي أحيانا، لأنه يخاطب فيهم الوجدان ويعبر عما في الجنان من معان وأفكار، وهو فوق كل ذلك بؤرة الانطلاق الحضاري.

 


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com