نعود اليوم لنكمل سويا ً حكاية بلاد الرّمان بعدما توقفنا في المرة الماضية عند الأمير وسام وهو يحضّر نفسه للنزول الى السوق ومشاركة أهل البلدة فرحتهم بموسم قطف الرّمان, واليكم بالتحديد ما قد جرى:
أما في قصر ِ الأمير ِ وسام فقد نجحَ بالتنكر ِفضحك َ عليه ِالملك ُ والملكة ُوكلُّ من في القصر ِ من وزراءَ وعمَّال فشاركهم الفرحة واتفقوا قبل خروجهم بأن يفترقوا ويتقابلوا مساءاً عند الجسر ِ وخرجوا من قصرهم مسرورين َ تملأ ُ قلوبهم البهجة َ لرؤية شعبهم تغمره ُ الفرحة وكلُّ البشِر, وما ان وصل َ الملك ُ السوق َ حتى استقبله الناس ُ بكلِّ حفاوة ٍ وسرور وصفَّقَ لهُ الصغيرُ والكبيرُ وغنوا لهُ جميعاً أغنية الإستقبال وفَرِحَ هو أيضاً برؤيتهم فبدأ بمعانقتهم وتفّقُدِ أوضاعهم والتعرف على التجار والزوار وتذوق ثمار الرمان, وبالنسبة ِ للأمير ِوسام فقد أجاد التنكر والتقليد فبدأ حين وصوله ِ بمخالطة الناسِ ومشاركتهم فرحتهم وتقاليدهم, كما وحاول َ بيع َ ثمار ِ الرمان لأحدِ المزارعين العاجزين عن فعل ذلك َ من خلال ِ لعب بعض ِ الحركات ِ البهلوانيةِ باستخدام ثمار الرمان فاستدرجَ ببراعته ِ جميع َ الناس ِ وبدأؤو بالتصفيقِ لهُ والضحك ِ على حركاته وكانت بينهم بيلسان التي انبهرت بحركاته ِ هي الأخرى, وما ان التفت اليها الأمير ُ وسام حتى خطف َ أنظارهُ ابتسامتها الرائعة وجمالها الفتان ولكن لم تتسنَّ له الفرصة َ بالتعرف عليها لإنَّ السوق قد ضجَّ بالناس ِ اللذين جائوا من عديد البلدان, فاستمرَّ يلاعب الأطفال ويساعدُ التجارَ ويبارزُ الشبان, وبينما كان يتجول في السوقِ جذبَ سمعه ُصوتٌ عذبٌ رقيق فالتفت َ وراءهُ فإذا هي الفتاة التي شاهدها وخطفت أنظارهُ ولم تسمح له الفرصة ُ بالتعرف عليها, فَسُرَّ كثيراً لرؤيتها وسُحِرَ بصوتها المليئِ بالدفئ والحنان الذي كان ينبضُ بالرِّقة والأدبِ وكأنه ُ الحان وهي تنادي * رمان رمان من يريد الرمان * سُحِرَ بصوتها وبدأ يتقدم الى عربتهم خطوة ً خطوه متأملاً رقَّتها وجمالها فأطالَ النظرَ فيها وبحبات ِ الرمان, مما جعل بيلسان تلتفت ُ اليه وتسأله بكل أدبٍ:- تفضل سيدي, كم حبة ً تريدُ من الرمان؟؟ لم يجبها الأمير وسام لأنه كانَ غارقاً في عالمِ الأحلام!! فأعادت عليه السؤالَ بيلسان؟! فقال َ لها متمتاً خجِلاً:- ممم ماذا ماذا قلتِ آسف لم أسمعك ِ!! فظنت بيلسان انه لا يمتلك المال لشراء ثمار ِ الرمان فنظرت الى والدها فأومأ اليها اي نعم, فقامت بكل تواضعٍ وأخذت حبتي رمان وقالت له:- تفضل يا سيدي حبتي الرمان واعتبرهما بمثابة شكرٍ مني لك لإنك قمتَ منذ قليل ٍبملاعبة الأولاد ِ الصغار واضحاك الكبار بحركاتك البارعةِ وانا منهم, حاول الرفض َ ولكنه ُ استسلمَ أمام َ كلامها وطِيبِ معاملتها.
فشكرها ووالداها وأخذ حبتي الرمان ومضى يفكر بالفتاة التي قابلها قائلاً في نفسه:- آآآه كم أنا غبي, حتى انّي لم اسألها عن اسمها؟؟ فقرر مراقبتها ومعرفة َ كل شيءٍ عنها جديرٍ بالإهتمام. وخلالَ وقت ٍ وجيز أنهت عائلة ُ بيلسان بيع َ ثمارِ الرمَّان فقرروا البدء بالتسوق ِ والإستمتاعَ بالمهرجان, فمضت بيلسان الى المهرجان تشاهدُ مسارحَ الدمى مع الفتيات والفتيان ويتراكضُ حولها الصغار وتساعدُ الكبار وتعطف على البسطاء وتتواضعُ لجميع ِ الناس ِ أقرباء كانوا أو غرباء, ومع كلِّ ذلك كان الأميرُ وسام ما زالَ يراقبها بكل اهتمام ويتسائلُ في نفسهِ عن سبب مناداة الناسِ لها بالملاك !! وما ان حلَّ المساء حتى عادَ الناسُ الى بيوتهم وقد غمرتهم السعادةُ بكل ما كسبوهُ من مالٍ فرحينَ بكلِّ جهودهم ومفتخرينَ بعرقِ جبينهم وبمقدارِ الفرح ِ الذي دخل الى قلوبهم, وعاد الاميرُ وسام الى القصر ِ وهو َ ما زالَ ممسكاً بحبتي الرمان وتشغلُ تفكيرهُ تلك الفتاة التي تدعى بالملاك والتي دخلت قلبهُ من غيرِ أي سابقِ إنذار وأعجبَ بطيبتها ورقتها وتواضعها ونبل أخلاقها. وكعادتها بيلسان قبل َ أن تنام جلست مع والداها يتحدَّثون عن الأحتفال وعن الشاب الذي لفت انتباههم اليوم الذي بدا مختلفاً عن أقرانهِ الشبّان, فإذا ببيلسان تقول لأمها:- أتعلمينَ أمي لقد فرحتُ بذلك الشاب كثيراً أتعلمين لماذا؟؟ فأجابتها الأم:- نعم أعلم ولكن أريدُ أن أسمع السببَ منكِ الآن, فقاطعتها بيلسان قائلة:- لأنهُ شجاع وذو أخلاقٍ حميده لقد أعجبتُ كثيراً بتصرفاتهِ فقد بدا لي متواضعاً وهو يلاعبُ الصغار ويحترمُ الكبار لقد أسعدَ من حوله وهذا يسعدني. فقالت لها الأم:- أعلم يا ابنتي أنك وجدتِ فيه صفاتٍ لم تجديها في غيرهِ وأنا أيضاً رأيتهُ كذلك, وأرجوا من الله بأن يرزقك ِ زوجاً صالحاً بمثلِ أخلاقهِ وصفاتهِ ونبلِ معاملته, قاطعتها بيلسان وقد احمرَّ لها الخدَّان قائلةً ً:- ماذا أمي لمَ بدأت ِالتفكيرَ بهذه الطريقة؟! ضحكت الأم وقبلتها ونامتا معا ًفي أحضان بعضهما.
وكذلك كانَ الأمرُ معَ الأميرِ وسام جالِساً معَ أبويهِ يحدثهما عن يومهِ وماذا شاهدَ وسمِعَ ورأى, ولكن الموضوعَ الأهم الذي كانَ يشغلُ تفكيرَ الأمير هو تلكَ الفتاة الملاك التي جعل َ يحدِّثُ والداهُ عنها بكلِ دقَّةٍ واخبارهما بكلِ التفاصيل ِ الصغيرةِ منها والكبيرة ويصف ُ لهما كلَّ المواقفِ وكيفَ راقبها باهتمام, فرِحَ والداهُ كثيراً بما يسمعانهِ من ابنهما الأميرِ وسام فهذهِ هي المرة الأولى التي يصارحهما فيها بمثلِ هذا الكلام وأحبا بشدَّةٍ فكرةَ زواج ابنهما من فتاةٍ ريفيةٍ ذاتِ أخلاقٍ نَبيلةٍ من بلادِ الرمان وقرروا البحثَ والسؤالَ عنها في اليومِ التالي ليريحا قلبيهما وعقلَ الأمير ِ وسام الذي نامَ وهوَ يحلُمُ باليومِ الذي سيجمعُ بينهُ وبينَ الفتاةِ الملاك المودةً والوئام.
وفي الصباحِ الباكرِ وعلى صوتِ الموسيقى تعزَفُ استيقظَ الأميرُ وسام, وما ان سَمِعَ صوتَ الموسيقى تُعزف حتّى تيقَّنَ من وجودِ أمرٍ هام, فذهب مع والدهِ ليستمعا الى رسالةِ الوزيرِ كِنان فأخبرهما بأن هناكَ قراراً يقضي بشَّقِ طريقٍ في بلادِ الرمان يربِطُ بينها وبينَ بلادِ الخيزُران لتسهيلِ الطرقِ التجاريةِ وتبادلِ البضائع وتقليلِ أكبر ما يمكن من الخسائر من ثمارِ الرمان, فجلَسَ الملِكُ والأميرُ مع الوزراء والخبراء وتوصلوا لحلِّ هذا الطريقِ وذلكَ من خلالِ مسارينِ الأولُ منهما أسهلُ بكثيرٍ من المسار الثاني الذي كان َ يقضي بشَّق هذا الطريق من وراء جبلٍ كبير, فقرروا الأمرَ ورسموا مسارَ الطريقِ الأول وبعثوا المرسالَ لينَّبهَ السكَّانَ ويتمكنوا من وضع العلاماتِ والقضبان. فبدأ الخبراءُ بالرَّسمِ ووضعِ العلاماتِ الى أن وصلوا لحقلِ المسكينِ أبي بيلسان فوجدوا أنَّ الطريق لا بُدَّ وأن يُشق من هنا ولا حلَّ آخر الاّ القبولَ بتعويضِ الأثمان.
وهكذا جرَت الأمور الى أن استيقظت بيلسان وخرجت لتُقَّبِلَ والِدها فإذا بها تَجِدُهُ وقد بدا عليهِ الحزنُ والهمُّ وتكادُ تدمعُ لهُ العينان فأسرعت اليهٍ بيلسان وسألتهُ عن سببِ حزنهِ وما صارَ اليهِ حالُهُ الآن. فأخبرها القصَّة َ كامِلَة ً فإذا بها تنغَمِرُ في بكاءٍ ليسَ لهُ حدودٌ ودموع تُقطِّعُ قلبَ كلِّ انسان فحضنت والدها وهيَ ترفضُ في داخِلها الخضوعَ لهذا الأمرِ الظالمِ الذي كانَ يقضي بالخسران لجميع أشجارِ الرمان فوقفَ أهلُ القريةِ الى جانبهم وشجعوهم ليذهبوا الى ملِكِ بلاد الرمان ليسألوه ويتوسلوا اليهِ الغاء هذا الأمرِ الفضيعِ الذي لا تتصورهُ الأذهان, فقررت بيلسان أن تذهب َ مع والدها الى قصرِ الأميرِ وسام والدفاعِ عن حقلهم البديع الذي لطالما أحبتهُ وأعطتهُ كل ما لديها من حبٍّ ورعايةٍ واهتمام فهذا الحقل كان دائماً ملهمها الأول وما زالَ يعلمها وهو بالنسبةِ لها حضنٌ مليئٌ بالحنان. وفي القصر كانَ الملكُ يتناقشُ مع زوجتهِ وابنهِ الأميرِ وسام فكرَةَ تأجيلِ البحثِ عن الفتاةِ الملاك لحينِ الإنتهاءِ من هذا الطريقِ والتأكدِ من السلامةِ العامة ِ للسكان فوافقَ الأميرُ بحزنِ وذهبَ مع الوزيرِ كنان ليتفَّقدَ مسارَ العملِ ولْيطمَئِنَّ على سلامة السكان وتوعيتهم لأخذ الحيطةِ والحذرِ من الإقترابِ من أماكنِ العملِ والقضبان, في هذا الوقت كانت بيلسان ووالدها على وشَكِ الوصولِ لقصرِ الملك وما ان وصلا حتى اخذا الإذن بالدخولِ ومقابلة َ المَلِكِ هُمام.
وفي قاعة الإستقبال كانَ الملِكُ جالِسٌ بانتظار والد بيلسان وابنته, فدخلا اليهِ بِكلِّ تواضعٍ واحترام والقيا التحية َ والسلام وجاءت لتسمعهما ايضاً الملكةُ نوران فألقت عليها التحيةَ بكل ادبٍ بيلسان فأعجبت بتواضعها ونبلِ أخلاقها وطريقة تقديمها للتحيةِ والكلام الملكة نوران فشكرتها وخاطبهما الملكُ قائلاً :- تفضلا واجلسا وأخبراني هل حدثَ مكروهٌ لأيٍّ منكما؟ فأجابهُ الوالدُ:- مصيبة ٌ كُبرى قد حلَّت على رؤوسنا يا ملكنا المقدام ولقد جئنا نتوسَّلُ اليكَ أنا وابنتي بيلسان الغاءَ الأمرِ الذي يقضي بِشقِّ طريقٍ الى بلادِ الخيزران؛ فهذا الطريقُ لا بُدَّ وأن يَمرَّ من حقلنا يا سيدي وليسَ لنا سِواه ُ نرتزقُ منه ولله وحدهُ الفضلُ بأن منحنا أرضاً جميلة في أجملِ بلادٍ, بلادُ الرمان. وقالت بيلسان:- حضرةَ الملكِ هُمام, لقد تميزنا عن غيرنا من البلدان بزراعة أروعِ أشجارِ الرّمان التي تنتِجُ ثماراً من أجودِ وأطيبِ الأنواع ويتهافت على شِرائها جميعُ الناسِ من شتّى النواحي, وبعدها قامت بيلسان بأخذ عنقودِ عنبٍ جميل كان َ قد وضِعَ على منضدةٍ أمام َ الملكِ وزوجتهِ نوران فقامت برميهِ والضغطِ عليهِ بقدميها حتى تَلِفَ وأصبحَ غيرَ صالحٍ للأكل أو الإستعمال, فتَعجَّبَ الجميعُ منها وغضِبَ الملكُ ورفعَ صوتهُ عليها قائلاً:- كنتِ على وشكِ اقناعي بأسلوبكِ المهذَّبِ والجميل ولكن بما تفسرينَ ما فعلتهِ الآن وتدميرِ عنقودِ العنبِ بقدميكِ, ظننتكِ تٌقدرينَ نعمةَ اللهِ المنان!! فأجابته ُ بكلِّ ادبٍ وهدوءٍ بيلسان.. فالجواب والجزء الأخير من قصة بلاد الرّمان ستعرفونهُ في العدد القادم إن شاء الله, منتظرة ً منكم أرائكم واقتراحاتكم حول الجزء الثاني والى حين ذلك الوقت أترككم في حفظ ورعاية الله المنّان.