بقلم : د. حُسَام الدِّين سَمِير
أستاذ العلوم النَّحويَّة واللُّغَويَّة المُشَارِك بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية
-1-
تُعَدُّ بلاغةُ النبيّ محمد ﷺ من أبرز السِّمات التي تميزت بها رسالتُه؛ إذ كانت كلماتُه تحمِلُ معانيَ عميقة، وتَستخدِمُ أساليبَ بلاغيةٍ متنوّعة تعكسُ حِكْمَتَهُ وقُدرته على التأثير. لم تُؤثِّر بلاغةُ النبي ﷺ فقط على العرب في زمانِهِ، بل امتدَّت لتؤثرَ في الأدب العربي والإسلامي والعَالَمِيّ عبر العصور؛ مما جعل رسالته خالدةً عبر الزمن، حيث اعتُبرت نماذج بلاغية تُدرس وتُستشهد بها.
مِنَ المفيدِ أنْ أشيرَ في إيجازٍ إلى الخواص اللغوية للحديث النبويّ مُنطلقًا في ذلك من لغةِ رسولِ الله ﷺ بوصفه صاحبه ومصدره، ومن المعلوم أنَّ النبيَّ ﷺ ينتسب إلى قريش أفصح القبائل على الإطلاق. وفي ظلالِ هذه البيئة اللغوية الصالحة كانت نشأة النبي الكريم ﷺ، ثم كانت مخالطته لأفصح القبائل وأخلصها منطقًا وأعذبها بيانًا، فكانت ولادتُه في بني هاشم وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومتزوّجه في بني أسد، ومهاجرته إلى الأوس والخزرج من الأنصار؛ ولذا قال النبي ﷺ وهو الصادق المصدوق : « أنا أفصح العرب بيد أنِّي من قريش واسْتُرْضِعْتُ في بني سعد بن بكر ». يقول الخطابي : « اعلم أن الله لما وضع رسوله ﷺ موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكَلِم. قال : ومن فصاحته أنه تكلَّم بألفاظ اقتضبها لم تُسْمَع من العرب قبله، ولم تُوجد في متقدّم كلامها، كقوله ﷺ : “مات حتف أنفه”، و”حَمِيَ الوطيس”، و”لا يُلْدَغُ المؤمن من جحر مرتين” في ألفاظ عديدة تجــــــري مجـــــــــــــرى الأمثــال. وقـد يدخــل في هــــذا إحـــداثه الأســـــماء الشرعية ». ومن ثمار تلك النشأة اللغوية والمخالطة أنْ كان النبي ﷺ في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات بالمنزلة السامية التي لا يُرْقَى إليها ولا يُنَافَس فيها، بحيث يُصَرِّف اللغةَ ويُدِيرها على أوضاعها، ويشقّق في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه، هيَّأ له ذلك ما تمتع به من قوة الفطرة، وصفاء الحِسّ ونفاذ البصيرة، وألفاظه صادرة من قلب متصل بجلال الألوهية، صقلها الوحي بحقائقه، والقرآن بإعجازه، فجاءت محكمة الفصول، محذوفة الفضول، فليس فيها عروة مفصولة، ولا كلمة مفضولة. جاء في المزهر للسيوطي عن عمر بن الخطاب (رَضِيَ اللهُ عنه) أنه قال : يا رسول الله، مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا ؟ قال : كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل (عليه السلام) فحفظنيها، فحفظتها.
أورد السيوطي أيضًا في “مُزْهَرِهِ” حديثًا للنبي ﷺ قال : قال رسول الله ﷺ في يوم دَجْن : كيف ترون بواسقها ؟ قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها ! قال : كيف ترون قواعدها ؟ قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها ! قال : كيف ترون جَوْنَها قالوا : ما أحسنه وأشد سواده ! قال : كيف ترون رحاها استدارت ؟ قالوا : نعم ما أحسنها وأشد استدارتها ! قال : كيف ترون برقها ؟ أخفيًّا أم وميضًا أم يشق شقًّا ؟ قالوا بل يشق شقا. فقال : الحياء. فقال رجل : يا رسول الله ما أفصحك ! ما رأينا الذي هو أعرب منك ! قال : حق لي، فإنما أُنزِلَ القرآن عليّ بلسان عربي مبين. [الدَّجْن : إلباس الغيم السماء وقد (دَجَنَ) يومنا من باب (نَصَر)، و(الدجن) أيضًا : المطر الكثير، مختار الصحاح، /99 مادة (دجن). الباسقة : السحابة البيضاء الصافية. (جان) جَوْنًا : اسْوَدَّ، و(الجَوْنُ) : الأسْوَدُ. يُنْظَر : لسان العرب. الرَّحا : الأداة التي يُطْحَن بها، وهي حجــران مستديران يُوضع أحدهــما على الآخـــر. ورحى الحرب : حومتها. البرق : الضوء يلمع في السماء على إثر انفجار كهربائي في السحاب. الحَيَا : الخِصْبُ. و الحَيَا : المطر. يُنْظَر : لسان العرب]. إنَّ لغة النبي ﷺ في الأعم الأغلب تتسم بالإيجاز ؛ ولهذا كثرت الكلمات التي انفرد بها دون العرب، وكثرت جوامع كلمه، وتلك ميزة تميزت بها لغته وانفرد بها دون الفصحاء والبلغاء، وذهب بمحاسنها في العرب جميعًا.
-2-
لم تكن فصاحتُهُ ﷺ مقصورةً على جودة الأسلوب وعُمق المعنى، بل جاوزت ذلك إلى الأداء، فلقد كان إلقاؤه الحديث بالغًا درجة الكمال، وساعده على ذلك أنه (صلوات الله عليه) كان ضليع الفم، وكان يستعمل فيه جميعه إذا تكلم، ولا يقتصر على تحريك الشفتين فحســب. وكان (عليه الصلاة والسلام) طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، وإذا تكلم لم يسرد سردًا، بل فصَّل وتمهَّل، وأبان ورتل. أمَّا معاني الحديث ففيها صفات قَلَّ أنْ تجتمع في كلامٍ سواه، ومن هذه الصفات الغِنَى في الأفكار، والعمق والجدة والإحكام، والغوص في أغوار النفس الإنسانية، وملامسة أبعاد هذه النفس، مِمَّا مكَّن لهذه المعاني أن تكون خالدةً على وجه الدّهر. إننا نرى في الحديث غِنًى مدهشًا في المعاني، فمعاني الحديث الواحد كثيرة متنوعة، وإذا نظرنا إلى معاني الأحاديث بشكل عام وجدنا أنَّ السُّنَّةَ لم تترك معنًى من معاني الحياة والعقيدة والتشريع والخلق إلا قررته وفصّلت فيه القول. وأسلوب الحديث النبوي يمتاز بالجزالة والوضوح، والدقة في الوصف والتعبير، والإبداع في التشبيه والتصوير، والموسيقى الرائعة في الألفاظ، والإيجاز في القول ومجانبة التكلُّف.
-3-
كان رسول الله ﷺ أفصح العرب لهجة، وأبلغهم حُجَّة، وأعذبهم كلمًا، وأغزرهم حكمًا، وأوجزهم عبارةً، وأعلمهم بلغات قبائل العرب، وأقدرهم على مخاطبة كل قبيلة بلغتها. فلا جرم أن يكون المأثور عنه من الحديث صفوة اللغة وحلية البيان بعد القرآن : يقتبس الأديب من لفظه، وينتفع البليغ بصوغه، ويستمد مفسّر القرآن عن أثره، ويستكمل الفقيه الأحكام الشرعية من نصّه، ويشيد اللغوي صرحًا للغة من كلمه، ويستظهر الحكم بحكمته؛ إذ كان ﷺ لا ينطق بلغو ولا يقصد إلى غير توضيح قرآن أو تقرير شرع أو هداية إلى حق. وله من جوامع الكلم ما يجلو صدأ النفس، ويشرح ضيق الصدر. وقد حدَّث الرسول ﷺ عن نفسه في حديث أخرجه الحافظ السيوطي في الجامع الصغير من رواية أبي يعلى في مسنده عن عمر الحديث الشريف التالي : « أُعْطِيتُ جوامع الكلم واخْتُصِرَ لي الكلام اختصارًا »، وقال عنه : “حديث حسن”. وجاء في اللِّسان : في صفة رسول الله ﷺ : أنه كان يتكلم بجوامع الكَلِم، أي أنه كان كثير المعاني قليل الألفاظ. وعند الكلام على “الاستيفاء” يربط الرافعي بينه وبين كلام رسول الله ﷺ أي “جوامع الكلم”، فلو تأمَّلنا شرحه المبثوث في مُؤَلَّفِهِ وجدناه يكشف في دراسته عن أَنَّ “الاستيفاء” الذي يخرج به الكلام – على حذف فضوله وإحكامه ووجازته – مبسوط المعنى بأجزائه ليس فيه خداج (أي نقصان) ولا إحالة، ولا اضطراب، حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما رُكِّبَتْ تركيبًا على وجهٍ تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السامع، واستوعبها القارئ تَمَثَّلَ المعنى وأَتَمَّه في نفسه في حسب ذلك التركيب، فوقع إليه تامًّا مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنًى جمومًا لا ينقطع به، ولا يكبو دون الغاية، كأنما هذا الكلام قد انقلب في نفسه إحساسًا لنظرٍ معنويّ، وهذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة، التي تذعن لها النفوس وتتصرف معها، وقلما يستحكم لامرئٍ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجّة، فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدربة والمزاولة إلا شيئًا يسيرًا لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولة فيمن ليـس من أهلـــه كما هو في أهــــله، ولأمــــرٍ ما قال أفصـــح العــرب ﷺ : « أُعطيتُ جوامع الكلم »، وفي رواية : « أُوتيتُ »، وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثر من أثرهما في التفكير والاعتبار ولا هو غاية من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو (إعطاء وإيتاء) فمن لم يعط لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له من ذلك كائن ولم تنفعه منه نافعة. ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه ﷺ وبناء بعضها على بعض، سلم هذا الكلام العظيم من التعقيد والعِيّ والخطل والانتشار، وسلمت وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة : كالمجاز البعيد الذي يغوص إلى الأعماق الخيالية، وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي، وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاش في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضه، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين باب واحد؛ ولذلك السبب عينه كثر في البلاغة النبوية هذا النوع من الكَلِم الجامعة التي هي حكمة البلاغة، وهو غير ذلك النــوع الذي قلنا فيه، مــما تكون غرابته من تركيب وضعه في البــــــيــــان، ثــــم هــو أكثــر كلامــه ﷺ كقولـه : « الدِّيـــن النَّصيحـة »، و« المـــرء مع مَــنْ أحــب »، و« الصبر عند الصدمـــة الأولى »، وقولــه في التوديـــــع : « أستودع الله دينـــك وأمانـــتك وخواتيم عملك». ومن أمثلة جوامـع كلمـه ﷺ التي وُجِـــدَتْ في لغته قولــه ﷺ : « سلوا الله العفو والعافية واليقين في الآخرة والأُولى »، وفي رواية : « سل الله العافية في الدنيا والآخرة ». فلو نظرنا إلى هذه الوصية الجامعة نجدها محيطة بخيريْ الدنيا والآخرة. . ومن تلك الأمثـلة أيضًا قولـه ﷺ : « خير المــال عين ساهرة لعين نائمة »، وقوله : « الحياء من الإيمان »، وقوله : « إنَّ من البيان لَسِحْرًا ». هذا الإيجاز المبدع وما حواه من معانٍ كثيرة شريفة يبين لنا مدى ما حفلت به فصاحة الرسول ﷺ من إتقانٍ وإبداعٍ الأمر الذي جعلها تفوق نظائرها من كلام فصحاء العرب. وقد ذكر الجاحظ عددًا من جوامع كلام رسول الله ﷺ، ومهَّد لذلك بذكر بعض كلامه ﷺ مما لم يسبقه إليه عربي، ولم يشاركه فيه عجمي، ولم يُدَّعَ لأحدٍ، ولا ادَّعَاه أحدٌ، مما صار مستعملًا ومثلًا سائرًا. يقول الجاحظ (255 هـ) : فمن ذلك قوله ﷺ : « يا خيل الله اركبي »، ومن ذلك قوله : « لا ينتطح فيها عنزان »، و« الحرب خُدعة »، و« الآن حَمِيَ الوطيس »، ومن ذلك أيضًا قوله لأبي سفيان بن حرب : « كل الصيد في جوف الفَرَا »، ومن ذلك قولـــه : « هدنة على دخن وجماعة على أقذاء »، ومن ذلك قوله : « لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحر مرتين»، ثم يتكلم الجاحظ عن جوامع كًلِم رسول الله ﷺ بأسلوبه الرفيع فيقول : « وأنا أذكر بعد هذا فنًّا آخر من كلامه ﷺ وهو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة ونُزِّهَ عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد : ﴿وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾. فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد ويسر بالتوفيق. وهذا الكلام الذي ألقى اللهُ المحبةَ عليه وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، بين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلَّت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز، ولا يلمز، ولا يبطئ، ولا يعجل، ولا يسهب، ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه ﷺ كثيرًا. كذلك فإن الموسيقى الموفقة العذبة التي تنساب من العبارة الحديثية من الخصائص الواضحـــــة في أسلوب الحديـــث النبويّ الشريف، من ذلك قولــه ﷺ: « أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر »، وقوله : « الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين »، وقوله : « اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة »، وقوله : « آيبون تائبون عابدون لربنا حامــدون »، وقولـه : « اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا »، وقوله : « اللهم أعنّا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك »، وقولـــــه : « اللهم قني عذابــك يوم تجـــمع عبادك »، وقوله : « أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك »، وقولــه : « إن الله كَرِهَ لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال »، وقولــه : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة »، وقولــه : « إياكم وقيل وقال، ومنع وهات، ووأد البنات، وعقوق الأمهات »، وقوله : « السِّواك مطهرة للفم مرضـــاة للرب »، وقولـــه : « عليك بالرفق فإنه لا يك في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه ».
يقول محمد بن سلام : قال يونس بن حبيب : ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول الله ﷺ، ومن ذلك قولـه ﷺ : « اليد العُليا خير من اليــــد السُّفْلَى »، وقوله : « الخَيْلُ معقــودٌ في نواصيها الخير إلى يــوم القـــيامــة »، وقولـــه : « الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة »، وقوله : « ما قل وكفى خير مما كثر وألهى »، وقوله : « لا يوردن ممرض على مصح »، وقوله : « تهادوا تحابوا »، وقوله : « رحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم » إلى ما لا يحصيه العَدّ من كلامه ﷺ، ولو ذهبنا نشرحه لبنينا على كل كلمة مقالة، وهذا الضرب هو الذي عناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة ؛ إذ عرفها بأنها : دنوّ المأخذ، وقرع الحجة وقليل من كثير، وهي صفات متى أصابها البليغ وأحكمها، وضع عن نفسه في البلاغة مؤنة ما سواها، ولكن إن أصابها وأحكمها. وقد علمت ما تكون وجوه الإعجاز المطلق في هذا الكلام العربي، وذلك مما وصفناه لك من إعجاز القرآن الكريم، فاعلم أن نسق البلاغة النبوية، إنما هو في أكثر الحد الإنساني من ذلك الإعجاز، يعلو كلام الناس من جهة، وينزل عن القرآن من جهته الأخرى، فلا مطمع لأبلغ الناس فيما وراءه، ولا معجزة عليه فيما دونه وهو عنده أبدًا بين القدرة على بعضه والعجز عن بعضه. وقد بقيت بعد رسول الله ﷺ أوصــافٌ جمة من محاسن البلاغة النبوية في عقبه من أهل البيت (رضوان الله عليهم) ومن اتصل منهم بسبب، أورثهم ذلك أفصح الخلق ولادة، وجادت لهم طباعه الشريفة بهذه الإجادة، فما تعارضهم بمن يحسن البلاغة إلا كانت لهم في البلاغة الحُسنى وزيادة !