إنَّ الحاجة إلى وداع ِ كُلِّ شيءٍ مؤلمة، والنظرةُ الأخيرةُ إلى الأشياء من وراءِكَ غالباً ما تكونُ مُرَّةً بطعم بقايا دماء ٍ متكتِّلة في بلعومك أبَتْ أن تزدري قبل أن تترك لها أثراً فيه، إنها دماء قادمِة من القلب إثرَ جُرح ٍ عميق ٍ تسبب به الوداع لا غير، الوداع إلى المجهول كما المُعتاد، دماءٌ وجدت لنفسها سبيلاً للهرب من مسارها لتشعرك وكأنها كمثلك خاضت حرباً لاذعة حتى باتت في بلعومك تنتظر تلك النظرة الأخيرة وغصّة الروح فيها حتّى تجد لنفسها كياناً فيك وتشعر بعظمة وجودها في بلعومك رغم كل شيء، لتبتلعها مُربكاً إياها بالهزيمة المُرَّة التي أثقلت فيك وأوهنت كل شيء .
الحقيقة أنّه وفي كُلِّ مرَّة ٍ أُخبر فيها نفسي بأن لا حاجة فعلياً إلى تلك النظرة الأخيرة؛ فلا ضَير من ترك النهايات مفتوحةً في داخلي كرواية ٍ لم يرغب مؤلفها بأن تكون لها نهاية، لتكونَ مُلهمة نوعاً ما، تبعث على الفضول في نَفْسِ القارئ الوحيد وهوَ أنا متيحة ً المجال له بأحقيّة كتابة سيناريوهات مُتعددة خاصّة به، سيناريوهات لا تشوبها إلا شائبة واحدة وهي أنها لا تمد للحقيقة في قلب الكاتب بأيِّ صِله، الكاتب الوحيد الذي هو أنا أيضاً.
في كُلِّ مرَّة ٍ أُخبر فيها نفسي وأقرر وإياها بأن لا حاجة فعلياً إلى تلك النظرة الأخيرة، أجدُ نفسي أمام خيارين اثنين؛ فإمَّا الحصول على صور ٍ تذكارية لكل ما أُحب أو الذهاب تاركة النهايات مفتوحَة لكل من القارئ والمُشاهِد، فهل لي أن أشيحَ بناظري عن كل شيء مُبتعدةً بنفسي عن كُل شعور مُر، فاقدةً فرصة الاحتفاظ بصورة ٍ أخيرة ٍ تذكارية لوجه أمي ربما أو ابتسامات إخواني؟ الجواب هو لا. ففي كل مرَّة أنهزمُ تحت وطأة ِ الشعور بالاشتياق إلى كل شيء، قبل الابتعاد وبُهتان الألوان أمام ناظريّ وضياعها.
تذكرةُ السفر من جديد جاءت على عُجالة بالغة، في قاعة الاستقبال هُناك جمعٌ غفير يتوارى كل منهم عن الآخر خوفاً من ملاحظة آثار الدموع، علامات القلق والحزن الشديد، والاحتفاظ بها في أذهانِهم، رُغم أنهم لا يعرفون بعضاً البتَّة، أتساءل في نفسي وأقول: شيء غريب!! أيخشى الناس بعضهم البعض إلى تلك الدرجة التي يخشون فيها إظهار حزنهم وعلامات التعب والإرهاق النفسي لديهم أمام بعضهم البعض، رغم أن كل ذلك الوهن مشترك ولذات الأسباب والقضايا!! أباتت المشاركة أمرا ً يدعوا للقلق والارتباك!! منذ متى و ” الآخر ” يُشكّل تهديدا ً بالنسبة للبشرية!! أسئلة كثيرة أمطرتني بها خلايا دماغي خلال دقائق الإجراءات التي تمرُّ ببطئٍ عارم وكأنها مصابةٌ بالوهن، أمّا في قاعة الانتظار فهنالك صمتٌ مطبق على المكان بكلتا ذراعيه، وكأنّ هُناك لافتات عديدة منتشرة في كل مكان لا تراها ولكنّك تشعر بها تُفيد بفضيلة عدم الكلام، ليس لأمر ٍ ما بعينه بقدْرِ ما يبدوا كشرط ٍ من شروط السلامة النفسية والقلبية للمغادرين؛ فأيُّ محادثة تبدأ، أو أي كلمة تسقط سهواً من أحدِهم تُراقَب بحدَّة وكأنها حِملٌ ثقيل على الكُل ولا يُسمح لها بالصعود إلى الطائرة، لذا يُفضّل عدم استحضارها من الأساس.
في الطائرة، بين طيّات السماء، قريبا ً أكثر من الغيوم والأحلام بعيدا ً عن أرض الواقع المُرَّة لا يعود كل شيءٍ كما كان، يقول شمس التبريزي ( الأهم من سفر المكان سفر الوجدان بداخلك، فما نفع تبديل الأماكن وأنت أنت ) وفي داخلي شيءٌ ما يقول في كل مرَّة ماذا عن كلا السفرين معا ً في آن واحد أيتها الروح؟ ألا يبدوا ذلك الأمر مُرهقا بعض الشيء؟ لحظات شتات ٍ فُجائية يعيشها الإنسان بين كل ذلك الزِحام، شتات ٌ لا يعترضه إلا أصوات الموظفين على التوالي، فذلك يسأل عن هويّتك وآخر عن وجهتك، وكثيرون كثيرون عن جواز سفرك؛ تلك الوثيقة القادرة على حملك لتطير بك حول العالم وكأنها بساط ٌ سحري قدِمَ إلينا من زمن السندباد وعلي بابا بينما أنت تفضّل أن تبقى على أرضك، في بيتك وتحديدا ً في غرفتك، أسئلة متكررة حول تذكرتك، اسمك وكنيتك، كل شيء، شتات ٌ يعترضه كل شيء إلا صوت والدتك، وإنما أصوات كثيرة بلهجات مختلفة تحاول نوعا ً ما تذكيرك بنفسك، من أنت!! من أين تقدُم وإلى أين الوجهة!! وبنبرة ما أو بأخرى تهمس في جوفك بين الحين والآخر: استيقظ من شتاتك عزيزي فأنت هُنا بالفعل وقد بلغت الوجهة.
يلوذ ُ كل ما فيك بصمت ٍ وجيز، تودُّ لو تُفقد في زمن ٍ ما أو تضيع ولكن كل ما فيك يجري إلى الأمام، شادّا ً الرِحال متوقّد الآمال، من أين تنبع تلك الشجاعة يا ترى؟ تسأل نفسك!! من أين تجئ بكل ذلك الاندفاع؟ أهي طريقة الجسد للتعبير عن رغباته بين كل ما تتخبط به الروح!! أم أنها مجاراة الجسد للواقع!! الحقيقة أنا أشبه السفر بالمرض العُضال؛ قديما ً كانوا إذا ألمّ مرضٌ بعضو ٍ ما في الجسد ولم يجدوا له دواءً بتروه ظناً منهم بذلك الفعل أنهم استأصلوا المرض مع العضو وقضوا عليه ليحدّوا من انتشاره، وإذا ما بُتِر العضو بالفعل قاموا بكيّ مكانه حتّى يسيطروا تدريجيا ً على الالتهابات القادرة على التهام جسد ما بأكمله وتدميره إذا ما عولجَتْ بأسرع وقْت. في الواقع إنّ السفر يُلِّم بالروح، في جزءٍ منها، ذلك الذيُ يلامس الاشتياق والحنين، ينتشر تدريجيا ً خلال لحظات الضياع والشتات ومع كُل سؤال ٍ يجيء على هيئة استفاقة ٍ روحية كخط دفاع ٍ أوّل، ثان ٍ وثالث للجسم يغرس السفر أنيابه في كيان الروح أكثر وأكثر حتى يحول إلى مرض عُضال يصعب شفاؤه أو السيطرة عليه إلا بالبتر، ومع ختم ذلك الجواز بختم الخروج وتسليم تذكرة السفر على باب الطائرة يُبتر ذلك الجزء من الروح وتتولى عملية كييّه حشرجات القلب وما هو قادرٌ على إظهاره من مشاعر، وما هو مدفون ٌ فيه كسرٍّ يأبى أن يُكشَف للعيان ومن دموع ٍ أبت أن تساهم في كيِّ مكان البتر ففضلت عوضا ً عن ذلك أن تتبلور عند مدمع العينين مانحة ً إياهما صورة ً لا تُقاوم؛ بطريقة ٍ لا يستطيع الناظر إليهما إلا الشروع بالبكاء على الفور، لذا يُفضل المسافرون تحاشي النظر إلى بعضهم البعض أيضا ً، وتمضي الرحلة مطبقة الصمت في البدايات ثُمّ تبدأ أصوات الأطفال وحركتهم باختراق ذلك الصمت شيئا فشيء إلى أن يحول الصمت العام إلى ضجيج ينعزل فيه المرء مع نفسه، غارقا ً في بحر ٍ التفكير في شيءٍ ما هُو مُقبل ٌ إليه، هو في عالم، والعالم من حوله في عالم.
وفي نهاية المطاف وبينما أنت في مكان ٍ ما على سطح الأرض سوى وطنك، تغزوك الأفكار من كل مكان، من الأصوات من حولك واللهجات، من الصور المختلفة والملامح المتعددة، كل شيء يتشابك في عقلك باحثا ً عن نقاط مشتركة وأوجه ِ تشابه بين هذا المكان الذي آلت إليه نفسك بطريقة فُجائية والصورة الباقية في قلبك لوطنك، تخلُصُ إلى حقيقة مفادها بأنّ النظرة الأخيرة إلى الأشياء مؤلمة، ولكنّ تفاديها أمر مؤلمٌ بالأكثر، ينعكس على فترتين زمانيتين في ذات الوقت، الحاضر والماضي، فبينما الحاضر يحمل في طيّاته كل شيءٍ عدا وطنك، تصبح في أمسِّ الحاجة إلى شيءٍ ما يُذكرك فيه أيّاً كان، وعندما كان الماضي يحتزم بذكرياته إلا أنّك غير قادر على تذكّر شيءٍ ما منها سوى تلك التي حملَتها في طيّاتها النظرة الأخيرة، فإنّك إذ تتفادى تلك النظرة وكأنك تقوم بطريقة ٍ ما أو بأخرى بحرمان نفسك من الاحتفاظ بتذكار ٍ لوطنك تضعه أمامك على سطح المكتب في أرض الغربة، مؤثراً بذلك على المستقبل بلا ريب، وعندما كان السفر هو سفر الوجدان، والغربة إنما هي غربة الأهل والأحباب، فأنا على ثقة وبعد عدة تجارب مختلفة بأنّ السفر دون الأهل والأحباب إنما هو سفرٌ للأبدان دون الوجدان، غربة ٌ لكليهما على حدٍّ سواء؛ فمن قال بأنّ الجوارح لا تستشعر مكانها، إنها تستشعر كل شيء وتبكي بلا أدنى أثر، وتضمرُ على نفسها وتضمحل إلى أن تصبح أسيرة الغربة باحثة ً في كل مكان فيه عن شيء ما يُشبه حرية الوطن، إلى أن تؤول إلى شخص ٍ لا يُشبهك أنت في مكان ٍ لا يُشبه روحك أيضاً، صاحبك الوحيد هو الله سبحانه كيفما شئت بسؤالك إياه على متن الطائرة بقولك: اللهمّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد.
لا بأس بنظرة ٍ أخيرة ٍ إلى كل شيء قبل السفر أعزّائي، فأيّاً كان الألم الناجم عنها فإنه لا شيء أمام عدم قدرتك على تذكّر صورة ٍ أخيرة للوطن وأنت تتخبط ذهابا وإياباً في الغربة، تحتفظون فيها بصور من تحبّون وما تحبّون وإن كان مجرّد فنجان قهوة، وإن كانت تلك الصورة لا تحتفظ إلا ببسمَة.
بقلم: رنا مروان – (الأردن)
2 التعليقات
Bara'ah_MJ
2018-09-02 at 1:27 ص (UTC 4) رابط التعليق
كلماتٌ أجبرتني على مشاركتكِ لاحساسي بصدقها وإيمانًا مني بقلم يختار أجود المفردات وأصدق المشاعر ليغدو نسيج متكامل،، فكم أحزنتني تلك الغربة بقدر ما أفرحني حرفكِ وصفكِ يدل على خيالكِ المبهر..كلماتكِ عالية بذوقها رفيعة بشأنها.
(0) (0)لا حرمنا الله هذه الكلمات،، دمتِ متألقة..
# هو في عالم، والعالم من حوله في عالم.
#لا بأس بنظرةٍ أخيرةٍ إلى كل شيء.
Rana Marwan
2018-09-06 at 6:01 ص (UTC 4) رابط التعليق
شكراً عزيزتي براءة ♥️
(0) (0)