هي مجرّد كلمة صغيرة جداً, إلا أنها تختزلُ في ثناياها شعوراً أكبر منها بكثير, بل مشاعر جمّا تحتار الكلمات في وصفها, وقد تستكين في سحرها, وقد لا تجرؤ أبداً على نطقها ” أحبك ” أمي, هذه الكلمة التي بإمكانها إحياء مشاعر العمر بأكمله في دواخلنا المتعبة من سوء حال الدنيا وشقائها فينا, هذه الكلمة التي تُجمِّلُ الدنيا بعيوننا, وتفتتح فيها قصوراً من لطفٍ وسعادة, حُبٍّ وحنيّة لا حدود لها بإبتسامات أمهاتنا لها.
متى يشعر الإنسان برأيكم بقيمة والدته ومعنى وجودها في هذه الحياة؟
عندما يبدأ بالإبتعاد عنها شيئاً فشيئاً, عندما تبدأ الحياة عند نقطةٍ معينة من العمر بإنتزاعه من دفىء صدرها؛ للجهاد في ساحات معاركها بعيداً ولأول مرة عن حضنها, عندما يأتي ذلك اليوم الذي يشعر فيه الإنسان ولأول مرّة بأنه قد نضج بالشكل الكافي والذي يؤهله للخروج إلى ذلك الشارع الذي لطالما نظر إليه من النافذة وظنّه أكبر تحدٍّ له في الحياة, ليخطو أول خطوةٍ تجاهه إنما بمفرده هذه المرّة من دون أن تكون هنالك أمٌ تراقبه من بعيد كما المعتاد أو تمسك بيديه بإحكامٍ خوفاً عليه من الفقدان أو الضياع.
تجتاح الأمهات مشاعر عارمة عندما يخطو أطفالُهنَّ الخطوات الأولى للمشي بنجاح بعد محاولات عديدة باءت كلها بالفشل والسقوط ثم المحاولة من جديد أمام أعينهن, تلك الخطوات التي تُعتبر أولى الخطوات الفعلية نحو كل ما هو قادم, نحو الحياة بأكملها بعيداً عن دفىء صدر الأم وحنانها, ورغم كلِّ تلك المشاعر المرهفة التي ترافق نجاح تلك الخطوات إلإ أن الأم تحرص دائماً على إمساك تلك الأيادي الصغيرة في كل مكان وفي كل موقف؛ لإن الأم لا تستأنف أبداً عن كونها أماً محتويةً وجامعة لكل ما يخصُّ أطفالها مهما كبروا وتقدّموا في هذه الحياة, فما بالنا بأيادٍ صغيرة تشبثت بأياديها دوماً كغصنِ شجرة ممتدٍّ لها على الدوام؛ لتساعدها على النهوض, المشي خطوةً بخطوة إلى حين القدرة على إفلات ذلك الغصن والسير وحيداً وبعيداً عنه. ومن ناحية أخرى يشعر الأطفال في تلك اللحظة التي يستطيعون فيها إفلات ذلك الغصن الممتد لهم والسير بمفردهم بمشاعر متضاربة أيضا؛ فلا هُم على التعبير عن سعادتهم قادرون, ولا هُم بإفلات أيادي أمهاتهم بذلك الإنجاز يشعرون؛ فالإنجاز كل الإنجاز في هذه الحياة هو القدرة على الإمساك بدفىء كَفَيِ الأم وحنانهما إلأىة آخر العُمر, فيودّوا لو أنها تعاود الإمساك بهم من جديد وتودّ الأم حينها في أن يبقى ذلك الصغير صغيراً, لا يأتِ يومٌ وتُجبر فيه على ترك يديه فعلياً, فتراه يهرع إليها مُبتسماً لها ومشتاقا, لتلاقية هيَ الأخرى مبتسمة باكية!!
وإذا ما قمنا بربط ذلك الموقف الكبير في مُجمله بموقف آخر مشابه له, فإنّ الواحد منّا يعود إلى كونه طفلاً صغيراً عندما تبدأ الحياة بإنتزاعه من بين يدي أمه للسير فيها حُراً طلقياً نحو أهدافه وتطلعاته, فترى الواحد منّا رغمّ أن لديه القدرة على الجري وحيداً إلأ أنه لا يجد في داخله إلا كل المشاعر المتضاربة, ما بين حُبه العظيم لأمه وإنسياقه كفطرة كونيّة في مجالات الحياة بعيداً عنها لتحقيق أحلامه وطمواحته وإحرازه لتلك النجاحات التي لطالما دعت له أمه بها ودفعته قدُما في سبيل إنجازها والإستمتاع بنكهة الفرح بالوصول إليها وتحقيقها, تلك المشاعر المتضاربة التي تجتاح روح الواحد فينا لحظة القدرة على المشي وحيداً في عمر العام, تأتي لتغمرنا في كل عام, بل في كل موقف يتطلب منا إتخاذ قرار بإفلات أيادي أمهاتنا لتحقيق هدفٍ لطالما رنت إليه طموحاتنا وتطلعت إليه أحلامنا, وكما استمرّت أمهاتنا بتعليمنا السير بمفردنا في عمر العام رغم أمومتها التي تعتصر في صدرها لتحتضننا إلى الأبد, ستستمر هذه الأم العظيمة بدفعنا نحو تلك الأحلام لترانا مبتسمين ولنراها نحن من جديد تبتسم لنا من بعيد وهي باكية . في تلك اللحظة التي يأخذ فيها العمر مجراه متقدما بها فينا وبأمهاتنا يدرك الإنسان بأنّ الغصن الذي أجبرَ فطريا ً على تركه في عمر العام بات يرافقه كظلٍّ له يحبه ويحميه على الدوام .
ما أعظمك أمي, وما أعظم حبك حبيبتي؛ ذلك الحب الذي لا تقدر على حمله تجاهي قلوب الدنيا مجتمعة, فمن بعد حُبك لا حبَّ لي أمي. ما أعظمك حبيبتي, وما أعظم حُبّك لي مجداداً, الآن وإلى الأبد؛ ففي ذلك الوقت الذي كنت تعانقين فيه الفرح بقدرتي على السير وحيداً, بقدرتي على الكلام والإنطلاق نحو أهداف لا حصر لها في هذه الحياة, كانت مشاعر الأمومة تدفعك دوماً للإطمئنان عليّ في ذات الوقت الذي كانت الدنيا برمتها تنسى وجودي, رغم مدى إمتنانني بها كطفل حرٍّ يسير فيها بإطمئنان, وإذ بذلك الإطمئنان يعنيكِ أنت حبيبتي ويوؤل إليك في كلِّ فرصة أجد فيها نفسي ضائعاً تلتفّ حول عنقي أشواك الدنيا المؤلمة واللئيمة في بعض الأحيان لكونك أنت الحنان, الحُبّ والتحنان الوحيد المرسل اليّ من الله. ما أعظمك حبيبتي, وما أعظم حُبّك ووجوده؛ ففي اللحظة التي ظننت فيها أنني انفصلتُ عن غصن شجرتك الممتدة نحو الأبد وإذ بذلك الغصن الحنون يمتدّ منك من فوقي ومن حولي كظلٍّ حنون لا يسأم عن التواجد وإيّاي أبداً .
فلتعلم عزيزي القارىء بأن القلب ينحاز ويحنُّ إلى موطىء نبضه وقدمِه, يحنّ إلى قلب أمه, أينما حلّ وكيمفما ارتحل يبقى ذلك القلب هو العنوان الوحيد الذي بإمكاننا جميعاً أن نأوي إليه بلا استئذان, بلا أيِّ سبب أو مُقابِل. فلتعلم عزيزي القارىء بأنّ القلب لا ينحاز إلى الأم وحسب, القلب يهوى الأم, ويحتويها في جوفه كيفما كانت تحتويه في جوفها خلال حملها بِه, ويرعاها حُبّاً في هواها وخوفاً عليها من الفقدان, إنها مُعادلة متقنة الصنع منذ بداية الخلق, فالمفاهيم فيها متابدلة والمشاعر فيها ثابتة تنتقل بين الأطراف دون أن يتبدّل حالها أو يتغيّر إلا أنها لا تفنى أبداً فهي تنتقل من حال الأم إلى طفلها, ومن حال الطفل إلى قلب أمه, حسب متغيّر العمر الذي يحكم عليها بالتنقل هكذا لتحقق التوازن الفطريّ والكوني إلى آخر العمر, حتى الأبد الذي لا يعلم له أمد إلا الله عز وجل, فاحرص رعاك الله على جعل ذلك التوازن أحد أهم المبادىء التي تقوم عليها حياتك, فحب الأم متوارث؛ وسيرث أطفالك يوماً ما منحته لأمك من حبٍّ واهتمام ليبادولك إيّاه وهكذا يتحقق إتزان تلك المعادلة بلا شك .
دعونا نعترِف أخيراً بأن اليوم الذي يمرُّ بلا سماعة الهاتف تنطق بإسمها ليس باليوم الجميل أبداً, بأنّ الصباح الذي لا يبدأ بصوتها ليس بذلك الصباح المشرق أيضاً, بأن اليوم الذي يخلوا من دعواتها ليس بذلك اليوم المشرّف إطلاقاً, بأننا جميعاً شعرنا بغربتنا عن الدنيا في ذلك اليوم الذي دفعتنا الحياة إليها لنسير حتماً في طرقاتها, وبأننا بلا شك كنّا في ذلك اليوم قد انتقلنا فعلياً من صفاء اللحظات التي كانت لا تمر إلا برفقّتها إلى ضوضاء العالم الخارجي الذي لا يُسمَع فيه أيُّ صوتٍ مرهَف, مطمئنٍ وصادقٍ كصوتها إطلاقاً. فكيف بذلك العمر الذي بإمكانه أن ينقضي دون وجودها؟ هل سألت نفسك يوماً فيما إذا كان العمر ينقضي حقاً بلا أمٍّ أم أنها مجرّد مسألة وقت إلى حين الإلتحاق بها؟ لذلك قد لا يتطلب منّا ذلك الحب الكبير الذي نُكنه لأمهاتنا اليوم أي مجهودٍ أو أيّ مُقابل, إلا أن حبّنا لأمهاتنا نعمةٌ كبيرة بالفعل, فحب الأم نعمة وإرضاؤها واجب علينا ولنا من تحت أقدامها الجنّة .
من كانت لهُ أمٌ ما زال غصن شجرتها المعمِّرة يحنُّ عليه من فوقه فليعتنِ بها, ومن كانت لهُ أمٌّ فقد إثرها إلأ أنه ما زال يحتمِ في هذه الدنيا بذكراها وبدعائها فليسأل الله لها الرحمة في اليوم ألف مرّة, وقبل أيّ كلمة ” أف ” لها فلنتذكّر بأنّ الشيء الوحيد القادر على إنتشالنا من قيعان هذه الدنيا بعد الله سبحانه وتعالى هو قلوب أمهاتنا وحبهنّ لنا الذي لا يقدّر بأثمن أسعارالدنيا.
بقلم: رنا مروان – (الأردن)