صدر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» (وزارة الثقافة المصرية) كتاب جديد بعنوان «مقر الحكم في مصر.. السياسة والعمارة» من تأليف الدكتور خالد عزب، فيه يبين أن عمارة مقر الحكم تعد مؤشراً إلى تغيرات في طبيعة الحكم في مصر، وفي المجتمع عموماً.
«لا شك في أن مصر في عصر الخديوي إسماعيل تغيرت كنتيجة طبيعية للتعليم الذي اندمج فيه من اقتنع من المصريين بأهميته، بل تدافع إليه بعضُهم لإحساسهم بأنه يحدث حراكاً اجتماعياً لهم»، يوضح الدكتور خالد عزب في كتابه «مقر الحكم في مصر.. السياسة والعمارة»، وكان من مؤشرات ذلك صعود استخدام اللغة العربية على حساب التركية كلغةٍ للتعليم ثم كلغةٍ رسميةٍ للدولة، أضف إلى ذلك ظهور الصحافة بقوة كمؤثر في تشكيل الوعي والرأي العام.
والمدقق بقوة في صحافة عصر إسماعيل سيجد انتقادات تُوجه له، وإلى الوجود الأجنبي المستنزف لثروات مصر والمصريين آنذاك، خصوصاً من بعض الأفاقين الأجانب الذين جاؤوا للحصول على امتيازات من مصر من دون أن يقدموا شيئاً.
ويشير الكتاب إلى أنَّ أسرة محمد علي حرصت على إيجاد هرمية محددة للمدارس من الأولية إلى العليا، وكانت هذه البنية ضروريةً لتخريج نوعية جديدة من موظفي الدولة يلبون متطلباتها، لكن في نفس الوقت يتم زرع الولاء عبر النظام والتربية في هذه البنية لأسرة محمد علي.
يذكرنا ذلك، بحسب الكاتب، بما قام به ولاةُ مصر الإسلامية حين فتحوا جامع عمرو بن العاص ليكون جامعةً علمية، والفاطميون حين جعلوا من الأزهرَ جامعةً علمية، فيما اختار الأيوبيون والمماليك المدارس لتكون أداةً لتحالفهم مع رجال الدين مع دمج بعض خريجيها في السلطة لتلبية احتياجاتها من الموظفين. من ثم، كان منهم من تولى ديوان الإنشاء، ومنهم من تولى الوزارة، واستمر هذا في العصر العثماني.
إلا أن عصر محمد علي كان مختلفاً لتطور الدولة وحاجتها إلى موظفين لتلبية ذلك، إذ لم يخرج تطور أشكال العمارة في مصر من عصر الولاة إلى عصر محمد علي عن أطره المحددة، إلا أنه شهد مع أول محاولة للاستقلال عن سلطة الخلافة العباسية شخصيةً تحاول أن تبلور عمارة مصرية، وإن تأثرت بالعراق في القطائع التي لم يبق منها سوى جامع أحمد بن طولون كأعظم وأقدم أثر شبه متكامل في مصر. فمع الدولة الفاطمية نرى بوضوح شخصية معمارية لمصر تتشكل، فيما لم يظهر طراز معماري فريد متميز في البلاد إلا في العصر المملوكي، حتى صرنا نراه في المآذن والمساجد والمدارس والقصور، وبلغ ذروتَه في منشأة السلطان حسن بميدان القلعة، وفي مدرسة السلطان قايتباي بصحراء المماليك.
قصور محمد علي
أما في عصر أسرة محمد علي، فبات الوضع مختلفاً، إذ إن تأثر المصريين بالعمارة العثمانية أصبح أقوى، نتيجةً لاستقدام محمد علي مهندسين من الأناضول أو شرق أوروبا. ويظهر هذا بوضوح في قصري الجوهرة وشبرا ومسجده، بينما في عصر خلفائه، وضح أن المهندسين المصريين والأوروبيين الذين عملوا في مصر كانوا أكثر تأثيراً إلى حد أن وجه العاصمة بات كأنه أوروبي. لكن كانت أسرة محمد علي مدركةً أن التراث العربي الإسلامي المعماري يربط هذه الأسرةَ بالوطن الذي تحكمه، لذا نرى قصورها تزينها الكتابات العربية، خصوصاً في قاعة العرش التي اكتسبت طابعاً عربيّاً صرفاً. كذلك فإنَّ الطبقة الوسطى المرتبطة بأسرة محمد علي رغم تشييدها فيلات على الطراز الغربي في حي الحلمية الجديدة، فإنها في السلاملك الملحق بهذه الفيلات استخدمت حواجز من الخشب الخرط أو رواشن.
متغيرات واندماج
كان السفراء يكتبون تقارير تعضد هيبة هذه الدولة، وتركيبة القلعة كمقر للحكم يضمّ السلطان وعرشه والدواوين ودار نائب السلطنة والعساكر السلطانية وإسطبلات الخيول، جعلت منها نموذجاً مُصغراً من الدولة تتركز فيه قرارات وأدوات الحكم. لكن ثمة أمر عوّق نمو هذه الدولة، هو رفض التطور، ظهر هذا جليّاً في رفض المماليك استخدام المدافع التي كانت في طور التطور في مصر المملوكيَّة، ورفضهم استخدام البنادق بتوسع، ما كان أحدَ أسباب هزيمة السلطان الغوري وطومان باي إزاء العثمانيين.
وبمرور الوقت أصبحت القصور الملكية مندمجةً مع المدينة العاصمة، خصوصاً عندما أدرك الخديوي إسماعيل المتغيرات في بنية المجتمع المصري، وحينما أرادت النخبة المصرية نصيبها في السلطة في ظل وعيها السياسي المتنامي، فأصبحت النظارات تقوم بعمل ما، تطور مع الزمن لتترسخ الدولة المعاصرة في أُطر جديدة، إذاً الوقوف هنا ضد التطور يسقط الدولة، بينما التفاعل مع المستجدات يجدد دمها