|  آخر تحديث سبتمبر 4, 2017 , 21:29 م

خالد الظنحاني يستدعي الماضي ويستشرف المستقبل في “أول منزل”


خالد الظنحاني يستدعي الماضي ويستشرف المستقبل في “أول منزل”



الإمارات، الفجيرة، 4 سبتمبر 2017

 

ينطلق الكاتب والشاعر والإعلامي خالد الظنحاني في كتابه “أول منزل” في فضاءات أكثر رحابةً واتساعاً، أطلق فيها العنان لقلمه وكتب ما جادت به قريحته في لحظات من التأمل والصفاء، مترعة بالإحساس والإفادة والإثراء والتنوّع، مكتنزة فكراً عميقاً ونظراً حصيفاً، ورؤية ثاقبة وواعية بالواقع ومجريات الحياة.

 
ويحتفي الظنحاني في هذا الكتاب بمسقط رأسه وموطن شبابه ومرتع صباه بأسلوب جميل وماتع صاغ جمله بإحساس مرهف ووعي متّقد، فجاءت عباراته وتوصيفاته شاملة وحاوية المعنى الذي صيغت له، قوية المبنى جميلة المعنى، مترعةً بالأحاسيس الصادقة والبوح الشفاف ضمّنها جوانب من تجربته وأماط اللثام فيها عن مكنون ذاته وما كان يدور في خلده، في الخلوات والجلوات، من وفاء ومحبة وتعلّق بأول منزل نيّطت عليه فيه التمائم؛ ذلك المنزل الذي يتمظهر في تجربة الظنحاني وكتاباته في صور مختلفة، فأحياناً يحيل إلى مرابع الشباب الذي عاش فيها الكاتب طفولته الأولى وارتوى فيها من معين فكر لا ينضب، وأحياناً ينزاح إلى الوطن، حيث الكيان والكينونة والوجود، الوطن الذي يرافق الظنحاني في حلّه وترحاله وأنّى يمّم وجهه.

 


غواية العنوان
من مستهلّ عنوان الكتاب يصادف القارئ غواية من نوع خاص، وربما يصاب بشيء من الذهول والاندهاش وقتاً طويلاً، لكن ما إن يمعن النظر ويتدبّر حتى يتبدى له المعنى جلياً واضحاً كالشمس في رابعة النهار؛ فالعنوان إحالة عميقة الدلالة من الكاتب إلى الشاعر أبي تمام واستحضار لأبياته المشهورة التي يقول فيها:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنــــينه أبدا لأول منزل

 
وكأنّ الكاتب أراد التعبير بعمق عن مدى تعلّقه بذلك المكان الذي يمتّد ويمتّد ليشمل الوطن في أبهى معانيه وأسمى صوره وأشكاله، وهي غواية واضحة طفق الكاتب خلفها وارتمى في أحضانها للتعبير عما يخامر نفسه، وهو الارتباط بالجذور لا القشور، الجذور التي يحيل إليها إحالات ذكية في عناوينه ومفرداته: ذاكرة الصبا، نخلة أبي، مراتع الشباب، الزمن الجميل، رائحة المكان، معراج الروح، معنى الحقيقة… وهنا يتكامل المعنى مع المبنى في بوح شفّاف وصادق ومعبّر عما يختزن نفس الكاتب، وبالتالي فهي غواية لا بدّ منها، وتجريب لا مندوحة من خوض غماره.
والحق أن هذا النوع من الكتابات التي لا تتوّسل بشيء سوى نضج الفكرة وعمق المضمون يقلّ، بل يندر في هذا الزمن الذي كثر فيه الاستسهال، وأصبحت الكتابة مشاعاً لكل من هبّ ودبّ، ومهنة لمن لا مهنة له، وفوق ذلك يفكّك الكاتب ـ بعمق بيّن ـ مستويات قد تبدو ـ لأول وهلة ـ متفرقة، لكنها ـ في الواقع، مرتبطة أيما ارتباط كحبات العقد، ينظم بعضها بعضاً؛ ذلك أن تجربة الكاتب التي خاض فيها أسفاراً وجاب فيها قفاراً وزار فيها مدناً وأمصاراً كوّنت لديه رصيداً كبيراً صاغه في خلاصة تجاربه مستعرضاً الكثير من القضايا والهموم التي تلامس وجدانه، وهي لسان الحال وواقع الحياة وعصارة التجربة.

 
عتبات
تمثّل استهالالات الظنحاني التي افتتح بها المحاور الأربعة الرئيسة للكتاب مدخلاً ثقافياً ومفاهيمياً يمكن من خلالها النفاذ إلى تجربة الرجل وفهم مرتكزاتها وأبعادها وتجلياتها، وذلك لكونها تحمل في طياتها رسالة عميقة للقارئ حتى يبصر كنه مغزاها وبُعْد معناها الذي يتماهى مع تجرية الظنحاني الثقافية بكل ما تحمله من معنى، كما تعكس في الوقت نفسه اختياراته بوصفه شاعراً مرهف الإحساس؛ فـ “ذاكرة الصبا” مزدحمة بالذكريات والصور والحكايات التي تحيل إلى مرحلة زمنية أو عمرية في حياة الشاعر كما في عمر الدولة والوطن الذي يسكن أعماقه، وذلك ما يتجلى بوضوح في اختيار أبيات أبي تمام المشهورة التي أشرنا إليها سابقاً بما تكتزنه من عمق يعكس حجم تعلّق الشاعر بوطنه لكونه أول منزل صافحه في الوجود، كما تحيل أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي التي اختارها الظنحاني مفتتحاً لـ “وطن الخلود” إلى المعنى نفسه مع اختلاف السياق وهكذا دواليك. يقول شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيلٍ
ظمأٌ للسواد من (عين شمس)
شهد الله، لم يغب عن جفوني
شخصه ساعةً ولم يخلُ حسي

 
إن اختيارات الظنحاني الواعية حدّدت معالم رؤيته الثقافية وأنارت جوانب مهمة من قراءاته العميقة التي تمظهرت في الكتاب بحلى بهية وصور نقية مما يكسب تجربته بعداً مهماً وملهماً في نفس الوقت يعكس مستوى جديداً في تجربته، والتعريف به ككاتب مخضرم ونقيب يفتش عن العلامات بالكلمات الحانية، الشافية، الوافية، التي ترسم خيوط الأمل في وطن الخلود ومجتمع السعادة بعد أسفار جاب فيها الكثير من القفار والأمصار.

 
وطن الخلود
اختزن الظنحاني في ذاته الكثير من القصص والحكايات التي ارتبطت منذ البداية بذاكرة الطفولة وما حوته من صور لم تفارق ناظر الظنحاني برهة واحدةً، بل ظلت ملازمةً له في حلّه وترحاله، وظعنه وإقامته، ويرتحل بنا، عبر أربع مستويات محكمة البناء والاتقان، في عوالم شاسعة وفسيحة شكَّلها بنفسه وارتحل إليها بذاته فكانت ذاكرة الصبا وطناً للخلود في مجتمع السعادة، وكان الحنين إلى نخلة “أبي” معراج الروح إلى الزمن الجميل الذي تضوّعت منه رائحة المكان بعبق تاريخه وعراقة تراثه، وكان أمل العرب المنبثق من “البيت المتّحد” رمزاً للتراث المعبّر عن الهوية وروح الاتحاد، الإمارات رئة وواجهة حضارية وفخراً لكل الإماراتيين بتشكيل مجد الوطن وبذرة المستقبل في فضاء مزدحم، وكان وهج المفقود بريداً إلى صنّاع الحضارة لتحقيق الرقم الصعب والمعادلة الأصعب ضمن خلاصة الأسفار والتجارب الحياتية التي نظمها الكاتب في مقالاته القيّمة التي شكَّلت مادة هذا الكتاب.
والحق أن هذا الكتاب بما يضمه في تضاعيفه يمثّل خلاصة تجربة الشاعر وعصارة أفكاره التي متحها من الواقع ونحتها من مفاصل الحياة، فجاءت شاملة الكثير من المعارف والعلوم، لا تتوقف عند حدّ معيّن؛ ففيها رائحة عبق التراث الإماراتي الأصيل الذي ينثال عبر سرب من المفردات التراثية الأصيلة والقيم النبيلة، وفيها روح العصر النابضة بالحياة، كما تشتمل على رؤية ثاقبة وواعية ومستنيرة للمستقبل، مما يجعل الكتاب سِفراً مهماً يتطلب دراسة عميقة وشاملة من مختلف الجوانب للإستفادة مما حواه بين دفتيه من أفكار ورؤى جديدة ومفيدة.

حوار الماضي والحاضر

 
تتأسّس نظرة الظنحاني للواقع على استدعاء الماضي بكل ما يحمله من قيم وهمم ومثل عالية درج عليها الآباء والأجداد، ويتضح ذلك بجلاء في استحضاره الدائم لما تعالق في ذاكرته من قصص وحكايات جميلة كادت تنمحي آثارها في زماننا بفعل تطور العصر وتسارعه واقتحام الثورة التكنولوجية والتقنية لحياتنا بكافة تفاصيلها، وهذا ما يجعل الظنحاني يتوق دائماً إلى استحضار الزمن الجميل وذكرياته العبقة بلهفة وحنين وشوق وتوق باح به في: “نخلة أبي”، وذكريات الجدة، ومزرعة الجد، ورائحة المكان التي تفوح من “الفريج”، حيث عبق التراث وأصالة التاريخ.
إن تعلّق الظنحاني بالماضي بما يرمز له من صفاء ونقاء، وتعالق سيرته مع المكان بما يحمله من عتاقة وعراقة دفعانه إلى عقد مقارنات كثيراً ما تنتهي لصالح الماضي الجميل والانتصار لقيمه النبيلة ومثله العالية، من خلال استحضار شذرات تاريخية وومضات تراثية ونفحات مضت وانقضت لكن ذكراها ما تزال ماثلة في الوجدان تعرج بالروح في سموات الحنين، حيث المجالس الرمضانية وحكايات الماضي وعبق التراث ورائحة المكان التي تنبعث من على الحصون والقلاع والمباني التاريخية والتراثية.

 
زايد الرائد
يبدو الظنحاني، في عرضه واقتضابه، مفتوناً بفكر المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وحقًّ له ذلك، زايد الرائد، صانع الفرق، وباني اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، والمهندس البارع الذي حوّل الصحراء القاحلة إلى جنة وارفة الظلال، زايد رجل التراث الذي حفظ ما تناثر منه في الصدور والسطور، وأولاه اهتماماً خاصاً، سواء تعلّق الأمر بتراث النخيل أو غيره.
مكمن ذلك الافتتان يعود ـ في الواقع ـ إلى حجم المنجز الكبير الذي تحقق على أرض الواقع وتمثّل في إرساء دولة متحدة، راسخة البنيان قوية الأركان، وهذا ما يحيل إليه المؤلف في حديثه عن “روح الاتحاد”، وأمل العرب”، و”مجد وطن”، “فخر الإمارات” وغيرها من المواضيع المهمة التي تشكّل مجتمعة رؤية المؤلف ونظرته للحاضر والمستقبل في الإمارات.

صانعة المستقبل
أفرد الظنحاني مساحة كبيرة في كتابه للاحتفاء بدولة الإمارات العربية المتحدة، صانعة الأمل والمستقبل، وما حققته من إنجازات ومكتسبات في كافة مجالات الحياة، متوقفاً عند محطات مشرقة في تاريخ الدولة الحديثة، ودورها في تصدير الصورة اللاّئقة والمشرّفة للعالم، منها مسبار الأمل، والتنمية الشاملة، والمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوأها المرأة في المجتمع والدولة في الإمارات، والصًّف المتَّحد، والبناء القوي والصرح الشامخ المحصّن ضد الغلو والتطرّف والإرهاب.
كل ذلك جعل الإمارات، بفضل جهود الباني المؤسس المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ظلاً وارفاً للعمل والعطاء والتنمية الشاملة، وأنموذجاً فريداً يحتذى به في صناعة الإنسان الناجح، والمواطن الصالح، والاقتصاد النامي، والبنى التحية المتطورة التي جعلت الإمارات وجهة سياحية واقتصادية وثقافية رائدة، وهذا ما يستشفّ في مواضع كثيرة من “أول منزل”.
عبق التراث
يمثّل التراث عنصراً ملهماً في تجربة الظنحاني، وذلك ما يتجلى بوضوح في مختلف المواضيع التي استعرضها في كتابه، حيث يبدو التعلّق بالمكان الإماراتي، موطن الشباب ومرتع الصبا، وما يبعثه في نفس المؤلف من شوق وحنين إلى زمن انقضت أيامه وما زالت ذكرياته وأشجانه تخامره أينما حلّ وارتحل. كما تجد المفردة التراثية مساحة واسعة في العرض والتوظيف، بوصفها المعبّرة عن الهوية الثقافية والخصوصية المحلية، وهذا ما يدفعه إلى الدعوة بالتمسّك بالتراث وقيمه الأصيلة وعدم الانجراف خلف سيل العولمة الجارف والتكنولوجيا التي غزت الأسواق والبيوت، دون أن يعني ذلك، بحال من الأحوال، الانعزال والتقوقع، بل الموازنة بين المحافظة على التراث وروح العصر.
أدب الرحلة وخلاصة التجربة
يعدّ ارتياد الآفاق وتدوين المشاهدات والانطباعات والمواقف وما تنطوي عليه الرحلة من مغامرات ومفاجآت تلفت انتباه الكاتب أثناء رحلته فناً أصيلاً وأدباً عريقاً، يعرف بأدب الرحلة، لما يختزنه من التشويق المفعم بالذهول والاندهاش من المشاهدات والمواقف التي يمر بها، لذلك أفرد الظنحاني باباً للحديث عن أسفاره والعوالم التي ارتادها والمدن التي زارها وما أثارته في نفسه من أحاسيس ومشاعر، حيث جاب في رحلاته الثقافية العديد من دول العالم الغربي والعربي، ومدنه الساحرة الآسرة بجمالها الفتّان؛ في ألمانيا، وقبرص، وتونس، والمغرب، هولندا، الأردن، التشيك.
ويمتاز ما كتبه في هذا الباب بالعمق والتنوّع، لما يشتمل عليه من معلومات ثرية ومعطيات مهمة تستعرض تاريخ المكان وثقافة أهله ونحلة عيش سكانه، مبرزاً جوانب مهمة من التواصل الثقافي والحوار الحضاري، ودور الثقافة في التقريب بين المجتمعات والشعوب وكسر جواجز الصمت وتعديل الصورة النمطية عن العرب والمسلمين.


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com