في هذا العام، الذي نحتفي فيه بثمانية عشر عاماً على تولي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، مقاليد الحكم في إمارة دبي، وأمام تجربته الملفتة في القيادة، التي تثير اهتمام العالم، نحتاج لوقفة تأمل، لنقرأ دروس سموه في القيادة، وفي الرؤية.
وأول ما نتوقف عنده هنا، اللمسة الشخصية، الخاصة، التي مصدرها رؤية صاحب السمو نفسه، وقناعاته النابعة من تكوينه وتجربته في الحياة والقيادة، التي سرت في المجتمع الإماراتي باعتبارها سمة مجتمعية عامة، وأسهمت في تكوين الهوية الوطنية.
وفي الحديث عن هذه اللمسة الشخصية، لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عند القوة التحفيزية، التي توجهت إلى استنهاض همم أبناء الإمارات من خلال التأكيد على الرقم «واحد». وكذلك على مفاهيم الذكاء والابتكار والتفكير خارج الصندوق واستشراف المستقبل وصنعه، وغيرها الكثير من المفاهيم التي فتحت مساحات لأبناء الإمارات ليتفاعلوا مع الحياة، ويهبوا لبناء وطنهم، ومعاضدة دولتهم، والانتماء إلى وطنهم.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الفكر القيادي لا يسير منفرداً، مكتفياً بنفسه، بل هو يجد قوته من اللمسة الشخصية للقائد، التي تبني العلاقات الوثيقة مع أبناء المجتمع الواحد؛ وهذا ما تميز به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، الذي يترافق فكره القيادي مع لمسة شخصية قوية، يشعر بها المواطن والمقيم، فيعتبر كل واحد منهم أن إشارات سموه هي تكليف شخصي مباشر له.
رؤية وبرنامج
لا بد من القول إن الثمانية عشر عاماً، من مسيرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، جاءت كلها لتعبر عن رؤية محددة مسبقاً، ومضت وفق فكر معين وتخطيط محكم، ومنضبطة على عقارب ساعة تستشرف المستقبل، وتخطط له، وتواجه تحديات الواقع من خلال التفكير من خارج الصندوق.
وهذه واحدة من ميزات نهج سموه الاستشراف والاستعداد للمستقبل بخطط استراتيجية، وتنظيم الخطى وفق برنامج عمل. ولهذا، فإن صاحب السمو استهل عهده، نائباً لرئيس الدولة، ورئيساً للوزراء، وحاكماً لدبي، بإصدار كتاب «رؤيتي» (2006)، الذي يبسط فيه رؤيته في القيادة والحياة. وقد جاء هذا الكتاب تحت عنوان فرعي هو «التحديات في سباق التميز»، وهو عنوان يحمل مفردات أساسية في فكر صاحب السمو، وهي على وجه التحديد: «التحديات» و«الفرص»، المفهومان المتجاوران على نحو لصيق، مثلما تلتصق «المعضلة» بـ«الحل».
في هذا الكتاب، «الرؤية»، يقدم صاحب السمو نظرته إلى الحياة ومهمات القيادة، وفي سياقها يرى أن من أهم مميزات القائد الكفء هي قدرته على تحديد التحديات، ثم أنه لا ينظر بعيداً، بل يتمعن في تلك التحديات ويحولها إلى فرص واعدة.
ومن جانب آخر يقدم صاحب السمو نموذج القائد، الذي ينتهج المبدأ البرامجي، حيث قدم لعهده برؤية هي برنامج عمل. وفي نفس الوقت يمثل هذا الكتاب تقديماً وتوضيحاً لشخصية القائد نفسه، ورؤيته.
وهنا، يمكن استعراض أجزاء الكتاب الذي يقع في 220 صفحة، حيث جاء في خمسة أجزاء حملت العناوين التالية: «دبي»، «الرؤية»، «بيئة الشيخ محمد»، «رؤية الشيخ محمد»، «سباق التميز»، «ما الذي يميزنا عن غيرنا؟»، «هل حققت دبي الامتياز؟»، «القرار الصائب»، «القرار الصعب»، «المنفذ»، «الكادر الأفضل»، «الخير كل الخير في عصر الشباب»، «المرأة»، «الحكومة الإلكترونية»، «المتسوقون السريعون»، «السابقون الأولون: الشيخ زايد بن سلطان»، «الشيخ راشد بن سعيد»، «الشيخ محمد الإنساني»، «الشيخ محمد العربي».
من عاش في دبي خلال العقدين الماضيين، يدرك بلا شك أن عناوين هذا الكتاب هي بمثابة برنامج عمل وجد طريقه إلى التطبيق على أرض الواقع بدقة. كما يستطيع أي قارئ أن يتحقق من أن القيم التي دعا إليها صاحب السمو في كتابه المبكر «رؤيتي» باتت قيماً راسخة في المجتمع الإماراتي، ونبراساً هادياً للشباب والأجيال الجديدة.
مدرسة التفاني
ملمح آخر بارز وظاهر في مدرسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في القيادة، وهو التفاني. بل إن التفاني يبرز نتيجة واضحة في كل مفصل، ويمكن للمرء أن يلمس ذلك في كل المجالات التي استقطبت اهتمام سموه، من الشعر إلى الفروسية، ومن الاهتمامات العسكرية إلى النشاط السياسي، ومن القيادة إلى صنوف الإدارة.
كان سموه شريكاً في جهد تأسيس دولة الاتحاد، وحارساً للاتحاد، وحامياً له. وقد اضطلع بهذا الدور بكل اقتدار، وسجل اسمه بجهد استثنائي، ودور بارز في عدة محطات. وهو ما جعله يحظى، منذ شبابه الباكر، بتقدير وثقة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله. وبذا كان «الأب المؤسس» أحد ينابيع الخبرة والمعرفة في مدرسة سموه في القيادة.
إن حضور مشهد تأسيس دولة الاتحاد بحد ذاته يمثل خبرة استثنائية، بكل ما في ذلك من معانٍ جليلة، وتجربة فريدة. وهنا، يمكن القول إن «التأسيس» و«البناء» والحفاظ على المنجزات، ستظل مفردات أساسية في تجربة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، التي هي سلسلة من الابتكار والتأسيس والإنشاء وتعظيم المنجزات.
ومن جانب آخر، يلمس المرء في مدرسة صاحب السمو في القيادة ذلك الأثر العميق للمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وتجربته الملهمة في بناء نموذج دبي، وعلى وجه الخصوص في مجال بناء قطاعات اقتصادية جديدة وحديثة وتجهيزها ببنية تحتية ملائمة.
فلسفة حكم
يخصص صاحب السمو الفصل الثاني عشر من كتابه «قصتي» للحديث عن الدروس التي تلقاها من الوالد الراحل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، ويوردها تحت عنوان: «ثلاثة دروس مع بداية حكم راشد».
إن هذه الدروس الثلاثة، التي يرد ذكرها هي ما أضحى مبادئ أساسية في مدرسة صاحب السمو القيادية، وأولها: «الإنسان لا يتوقف عن التعلُّم»، وثانيها، صنع القادة، حيث يقول: «أهم صفات الحاكم الناجح أن يحيط نفسه بقادة أقوياء، ونحن نبحث عنهم دائماً، ولكن حينما لا نجدهم نصنع نحن القادة. مسؤوليتنا أن نصنع قادة». أما الدرس الثالث فهو «الاقتصاد أولاً».
ويمكن أن يعثر كل متتبع لسيرة سموه القيادية على هذه المبادئ في مبادراته وقراراته ونهجه على مستويات مناصبه الثلاثة، نائباً لرئيس الدولة، ورئيساً لمجلس الوزراء، وحاكماً لدبي.
ويمكن القول، كذلك، إن هذه المبادئ الثلاثة كان لها القسط الأكبر في الإسهام الذي قدمه سموه في تاريخ الدولة ورفعتها، وتعزيز مكانتها وموقعها كتجربة ريادية، ونموذجاً عصرياً في التعامل مع التحديات وتحويلها إلى فرص واعدة ومجزية.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن صاحب السمو كان يترجم كل خبرة وتجربة إلى فكرة ومبدأ؛ وعلى هذا النحو، فإن معايشته لـ«الأب المؤسس» و«الوالد راشد» تمت ترجمتها في منهج حياة وفلسفة حكم.
لذا، فإن صاحب السمو يختم هذا الفصل الثاني عشر، من كتابه «قصتي» بالقول: «ثلاث نصائح من حكيم ومعلم، أصبحت منهج حياة لي، وفلسفة حكم مع شعبي».
الشغف: دبي
شغف صاحب السمو، وفكره القيادي يدور حول «مركز» و«جوهر»: المركز دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة الاتحاد. والجوهر: دبي.
لقد اتسمت تجربة صاحب السمو بالحرص على دولة الاتحاد، والتمسك بمبادئ الآباء المؤسسين، والاعتزاز بسيرتي ودوري «زايد» و«راشد»، في إنشاء هذا الاتحاد الفريد، ونموذج الوحدة الناجز المتماسك.
وفي هذا السياق، تتجسد في دبي، التي ارتبط اسمها باسمه، أسمى الأفكار، وأكثرها نجاحاً. وكأنما الإمارة كتاب خطه بقلمه الشغوف بالنجاح والتفوق. وكأنما هي حلمه الذي سعى إلى بنائه طوبة بعد طوبة.
ومن الملفت أن صاحب السمو عبر على نحو صريح بشغفه هذا في كتابه «قصتي»، الذي يتعلق بدبي، بكلمات واضحة، وربطها بأعز ما يرتبط به، فيقول: «أبي والخيل ودبي، هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي؛ أبي والخيل ودبي، هي ذاكرتي التي ستبقى معي حتى النهاية».
ويستطرد موضحاً: «الخيل تجمع العزّة والأنفة والرقة والقوة في نفس الوقت؛ وكذلك أبي، وكذلك دبي».
بلى، دبي هي الذاكرة، ودبي هي الشغف!
الجد الخبير
يولي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم اهتماماً شديداً بجده المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم، رحمه الله. إنه حتى من أوائل الناس الذين يتحدث عنهم في كتابه «قصتي»، ويذكرهم باعتزاز بالغ.
ومن يقرأ الفصل العاشر من الكتاب المذكور. وهو الفصل الموسوم بعنوان: «أطيب رجل عرفته في حياتي»، يدرك أن المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم، رحمه الله، من ينابيع خبرة سموه.
وفي هذا السياق، يمكن تذكر الوالد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وأثره، ومبادئه ودروسه الثلاثة، التي لا تكتمل دون دروس المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم الجوهرية. وهي دروس تتعلق بالاقتصاد.
يستذكر صاحب السمو عن جده المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم، فيقول: «عرف الشيخ سعيد بسعة صدره، متعاملاً مع الشدائد بحكمة وصبر ورزانة».
ويضيف: «مرت دبي في عهد الشيخ سعيد بالكثير من الأزمات، وكانت في كل مرة كطائر الفينيق الأسطوري، كلما استحال رماداً، نهض أكثر قوة وحياة».
وبعد ذلك يستذكر سموه الأزمات التي عاصرها الجد الشيخ سعيد، متأملاً كيف واجهها. ومن هذه الأزمات الكساد العظيم وانهيار سوق اللؤلؤ ووباء الجدري في الأربعينيات وغيرها.
وكان على الدوام يسخّر كل الموارد والإمكانيات لكي يبقى الإنسان والعامل البسيط المشتغل في قطاعات الاقتصاد قادراً على الحياة والعمل والعيش الكريم، وتأمين حصانة له ضد الوباء.
كانت الرعاية الاجتماعية فكرة مركزية في رؤيته، يحرص عليها، ويرعاها، وينمي مجالاتها.
يطول تأمل أفكار صاحب السمو حول جده الشيخ سعيد، ولكننا نعرف في الواقع، أن سموه في فكره ونهجه يجسد ذلك الفكر الإنساني النادر، الذي قاد دبي في أحلك الظروف العالمية.
رجل التحديات
خلال ثمانية عشر عاماً من الحكم أغنى صاحب السمو التجربة الإنسانية في القيادة والإدارة، وصنع نموذجاً فريداً هو مثار إعجاب العالم، وكان أميناً حافظاً لدولة الاتحاد، ورئيس حكومة يشاد بحكمتها وحسن تدبيرها وقدرتها على مواكبة العصر وتحقيق قصب السبق في سباق المسافات الطويلة.
إن تحدث المرء عن رجل تحديات، يستطيع أن يحول كل ما يمر به إلى فرص مجزية، فإن الحديث يدور بالتأكيد عن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.