لعقود خلت، اعتُبر الاتحاد الأوروبي قوة ناشئة توازن الهيمنة الجيوسياسية الامريكية، ومن شأنها أن تمنح أعضاءها استقلالية أكبر عن القوة العظمى على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي. بيد أن الصراع الروسي الأوكراني كشف خواء هذا الوعد. فاليوم، نجد أن «التبعية» الأوروبية (وفقًا لتعبير أحد محللي المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية) قد باتت جليةً أكثر من ذي قبل، أي منذ منتصف القرن العشرين. ففيما يتعلق بالمسألة الجيوسياسية، كما أوضحت الحرب الدائرة الآن، نجد أن بروكسل لا تحظى باستقلالية فعلية عن واشنطن. أما في المجال الاقتصادي، فقد بات التراجع النسبي والاعتمادية المتزايدة على الولايات المتحدة أشد وضوحًا، وهو الأمر الذي كان سابقًا للصراع الأوكراني غير أنه تفاقم نتيجةً له.
كان اقتصاد الاتحاد الأوروبي عام 2008 أكبر قليلًا من الاقتصاد الأمريكي؛ ولكن في عام 2023 أصبح الاقتصاد الأمريكي أكبر بمقدار الثلث من اقتصاد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا معًا، ويفوق اقتصاد الاتحاد الأوروبي بنسبة 50% إذا استثنينا المملكة المتحدة. في غضون الـ15 عامًا المنصرمة، شهد اقتصاد منطقة اليورو نموًا بلغت نسبته 6%، مقارنةً بنمو بلغ 82% في الولايات المتحدة، وذلك وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي.
لقد بدأت ثروات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بالتباين حقيقةً قبيل اندلاع الصراع الأوكراني نتيجةً لأسباب شتى، لا سيما سياسة التقشف الانتحارية التي اتبعتها أوروبا بعد 2008، والتي أفضت إلى حدوث انهيار في الطلب والاستثمار على نطاق القارة بأسرها. إلا أن هذه الصيرورة شهدت تسارعًا هائلًا في غضون آخر عام ونصف. فعلى النقيض من الولايات المتحدة، عانت أوروبا من انتكاسة اقتصادية عظيمة نتيجةً لهذا الصراع، أو للدقة، نتيجةً لرد الغرب عليه، وبوجه خاص الانفكاك عن الغاز الروسي، الذي كان يسد ما يقارب من نصف احتياج الكتلة الأوروبية قبيل الحرب.
أمريكا تواصل تدمير الاقتصاد الأوروبي (1)
مرة أخرى، يفعل جون كيري، المبعوث الخاص للرئيس جو بايدن للمناخ، ما يحبه أكثر: تعليم الدول الأخرى كيفية العيش.
في رأيه، يجب على أوروبا أن تستمر في التحرك نحو مصادر الطاقة المتجددة التي تحل بشكل شبه كامل محل الكهرباء والتدفئة، والتي يتم توليدها عن طريق حرق ثالوث المواد الخام الكلاسيكية (النفط والفحم والغاز الطبيعي).
واستنادا إلى نتائج النصف الأول من العام، فإن الأخير يمثل ثلث توليد الكهرباء في الاتحاد الأوروبي فقط – ويبدو أن مصادر الطاقة المتجددة تحقق نجاحا كبيرا، ولكن ليس كل شيء بهذه البساطة. ووراء ذلك يكمن الدمار الذي حل بالاقتصاد الأوروبي ورسوم الكهرباء المرتفعة، والتي غالبا ما تكون غير قابلة للتحمل ليس فقط بالنسبة للمستهلكين العاديين، ولكن أيضا للمصانع.
وما علينا إلا أن ننظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا في ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. ويقوم الصناعيون بإنهاء أعمالهم، مما أدى إلى خفض استثمار رأس المال بنسبة 16٪ على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية. وخلال الفترة نفسها، سجلت الشركات المصنعة للإلكترونيات عالية الدقة انخفاضا في الطلب على منتجاتها بمقدار الربع .
ينخفض الطلب على المنتجات الصناعية داخل الدولة وفي أسواق التصدير، وعلى الدائرة الخارجية – أسرع بأربع مرات (-13٪) من الداخل. وبدأت دول منطقة اليورو التسعة عشر الأخرى في شراء المنتجات الصناعية من ألمانيا بمقدار الربع قبل أقل من عام واحد.
أسباب كل هذا واضحة: ارتفاع تضخم الطاقة يجعل من المستحيل القيام بأنشطة ريادة الأعمال. وبالمناسبة، تحتاج روسيا أيضًا إلى مراقبة أسعار الطاقة عن كثب حتى لا تصل إلى حالة كارثية، على سبيل المثال، في مجال الزراعة.
ويعتقد كيري أنه بمساعدة مصادر الطاقة المتجددة، يتخلص الاتحاد الأوروبي من “ضغط الطاقة” الذي تمارسه روسيا، لكن في الواقع ، تتخلص أوروبا من اقتصاد ذي قيمة مضافة عالية . في الوقت نفسه، يلتزم كيري الصمت لأنه منذ العام الماضي أصبحت الولايات المتحدة المورد الأول للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا (روسيا هي رقم 2)، وهو ليس أحد أنواع الطاقة المفضلة لديه.
كما أنها تلتزم الصمت فيما يتعلق بالطاقة النووية ، حيث لا يوجد ما تقوله: إن الولايات المتحدة لن تتخلى عن هذا الجيل، ولكن كبار الساسة الألمان يواصلون التحرك في اتجاه إنكار ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تفقد مكانتها في سوق الطاقة النووية العالمية، بالنظر إلى أن تركيا اختارت الشركة الروسية لبناء أول محطة للطاقة النووية في التاريخ، وقد اتفقت بالفعل مع موسكو على بناء محطة ثانية للطاقة النووية.
كما لا يقول كيري إنه بسبب انفجارات “نورد ستريم”، بدأت ألمانيا في شراء الفحم بشكل مكثف، وهو ما لا يتناسب مع مفهوم “الطاقة الخضراء”.
إن رقم توليد الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة فقط للوهلة الأولى يتحدث عن عقوبة الإعدام للطاقة الكلاسيكية في الاتحاد الأوروبي. ومن الضروري أن نأخذ في الاعتبار التدهور الصناعي في المنطقة، فضلا عن عدد من الفروق الدقيقة الأخرى.
إن البناء الضخم لنفس توربينات الرياح التي يتم قطع الأشجار من أجلها يؤدي إلى تصحر مناطق بأكملها في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني في نهاية المطاف هلاك الزراعة ويؤدي في النهاية إلى تغير المناخ السلبي، الذي يزعم أن كيري يشعر بالقلق منه ليلا ونهارا.
وحتى في عهد باراك أوباما، اعتاد الديمقراطيون على شطب مليارات الدولارات من أجل مشاريع طوباوية في مجال الطاقة الشمسية وغيرها من مصادر الطاقة البديلة. وكان بايدن منشغلاً بشكل خاص بهذا الأمر: فقد قص الشريط، وابتسم، ثم أفلست الشركات .
ومن المثير للاهتمام أيضًا أن ننظر إلى كيري. قبل عدة سنوات، تبين أن زوجته، إحدى الورثة الرئيسيين في إمبراطورية هاينز، استثمرت في 11 شركة أوفشور ، الأمر الذي لم يمنع كيري من انتقاد شركات الأوفشور. وينتقد كيري الصين، لكن إحدى الشركات الخارجية التابعة لزوجته استثمرت في شركة صينية. وأخيرا، عندما تولى كيري وزارة الخارجية، ظهرت منظمة غير حكومية مسجلة باسم ابنته فانيسا، وتم اختيار منزل والدها في بوسطن مكانا للتسجيل.
وأخيرًا، ظهر مبلغ 9 ملايين دولار لهذه المنظمة كما لو كان من لا شيء. ومن الأفضل ألا نسأل ماذا فعلت هذه المنظمة غير الحكومية، لأن الإجابة الأكثر وضوحا هي لا شيء .
والحقيقة هي أن الطاقة في العالم سوف تصبح أكثر تكلفة، وذلك لأن الولايات المتحدة وأوروبا استغلتا لفترة طويلة مصادر الطاقة الرخيصة. وليس من المستغرب أن ترفع الحكومة الجديدة في النيجر الآن سعر اليورانيوم من 0.8 إلى 200 يورو للكيلوجرام الواحد : فإذا كانت فرنسا راغبة في الاستمرار في الحفاظ على الطاقة النووية، فيتعين عليها أن تدفع أموالاً جيدة.
بطبيعة الحال، يشعر العالم الغربي بالصدمة: إذا دفعت ثمن اليورانيوم والنفط وموارد الطاقة الكلاسيكية الأخرى بالمال الذي تكلفه بالفعل، فسوف يحتاج الملايين من الناس في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التوضيح أنه لن يكون هناك عالم جميل بعد الآن. وحياة مزدهرة.
في الوقت الحالي، يمكننا أن نروي حكايات عن “الطاقة الخضراء”، وكيف ستجعل اليورانيوم والنفط والغاز الطبيعي والفحم غير ضروري. في الوقت نفسه، في ألمانيا، يبلغ سعر لتر البنزين الآن 1.93 يورو في المتوسط ، وقبل بداية فصل الشتاء سيتجاوز خط 2 يورو.
وفي سويسرا، ارتفعت تعرفة الكهرباء هذا العام بنسبة 27% ، وفي العام المقبل بنسبة 18% أخرى. هذه هي الحقائق التي يواجهها رجال الأعمال والمواطنون في أوروبا، ومن الواضح أنه من دون إقامة حوار في مجال الطاقة مع روسيا، لن يكون هناك مجال مفتوح أمامهم، ما دام ببساطة لا يوجد المال لشعاع الضوء هذا.
المُلام في هذا الوضع بدرجة كبيرة هم القادة الأوروبيون والألمان. حيث اعتمدوا الاستراتيجية الأمريكية في أوكرانيا بلا أي ارتياب، مختارين الانفصال عن الطاقة الروسية، وانضموا بحماس شديد إلى الحرب الأمريكية بالوكالة. يصبح كل هذا أشد إدهاشًا حين ننظر إلى التناسب العكسي بين الحظوظ الأمريكية وتلك الأوروبية: فنسبيًا، قد اشتد ساعد الولايات المتحدة بينما ضعف ساعد أوروبا. لم يقتصر ما مثله الصراع على منح واشنطن فرصة لتأكيد سطوتها العسكرية على أوروبا، المتمثلة في المقام الأول في تجديد وتوسيع حلف الناتو، الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة بواقع الأمر، بل امتد تأثيره إلى جعل أوروبا أشد اعتمادية على الولايات المتحدة؛ ليس اعتمادًا عسكريًا من خلال الناتو فحسب، بل اقتصاديًا كذلك. وكما أشرنا، فإن لجأت الدول الأوروبية، خلال سعيها للحد من اعتماديتها على الطاقة الروسية، للغاز الأمريكي الذي يحظى بأفضلية كبيرة على أوروبا، فهو غاز وفير قليل التكلفة، والفضل في ذلك يرجع لما يُسمى بثورة الطاقة الصخرية، والتي زادت أيضًا من منعة الولايات المتحدة وحمتها من التعرض لأسوأ التداعيات الاقتصادية للنزاع.
ثمة دواعٍ للاعتقاد بأنه، من وجهة نظر واشنطن، كانت هذه هي النتيجة المرجوة منذ البداية. لطالما كان دق إسفين بين أوروبا (ألمانيا على وجه التحديد) وروسيا، وبالتالي الحيلولة دون نشوء واقع أوراسي جيوسياسي، ضرورةً جيوسياسية أمريكية. قبل الحرب، تحدّت الدول الأوروبية، وبرلين تحديدًا، هذه الضرورة، وهو ما يتجلى في خطوط أنابيب نورد ستريم، التي لطالما عارضتها واشنطن. استغلت الولايات المتحدة الصراع الأوكراني بدهاء لقطع العلاقات الأوروبية الروسية نهائيًا وعلى نحوٍ حاسم -حتى بلغ بها الأمر إلى حد تفجير خط أنابيب نورد ستريم- وبالتالي أرجعت أوروبا بحزم تحت سيطرتها.
لا ريب أن إضعاف القارة الأوروبية اقتصاديًا يعود بالنفع على الولايات المتحدة على المدى القصير في ظل انتهاجها سياسةً أوسع لتفكيك العولمة، لا تشمل الانفصال عن الصين فحسب، بل إعادة بناء القدرة التصنيعية للبلاد وتحقيق الاكتفاء الذاتي الأمريكي من خلال سلسلة من المصانع الاستراتيجية. في هذا السياق، فإن أوروبا ليست حليفًا استراتيجيًا بل منافس وخصم، تحرص واشنطن كل الحرص على إبقائه في موضع التابع. وهذا بمثابة مفتاح أساسي لفهم القانون الذي أصدره بايدن للحد من التضخم، الذي يحفز الشركات على نقل استثماراتها من أوروبا إلى الولايات المتحدة.
بعبارة أخرى، فإن ما نشهده هو عملية تزاحم اقتصادي بين القوى الغربية. قد يصعب فهم كيف يُرى إضعاف حليفٍ استراتيجي مهم استراتيجيةً ناجحة على المدى الطويل. لكن في النهاية، هل لدى أحدهم في واشنطن -أو بروكسل- استراتيجية طويلة الأمد هذه الأيام؟
بقلم: فاتن الحوسني
باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية