روسيا الإتحادية في عالم ما بعد الإتحاد السوفييتي:
” أكبر كارثة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين هي انهيار الإتحاد السوفييتي . من لم يحزن على انهيار الإتحاد السوفييتي لا قلب له . ومن يريد إعادته بحلته السابقة لا عقل له ” . ” الرئيس فلاديمير بوتين ” .
فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين . ( بالروسية : Владимир Владимирович Путин ) ، من مواليد 1952 .
يحظى بوتين بدعم كبير داخل الأوساط الروسية، كما يحظى بمعارضة يمكن وصفها بالشرسة- حيث حصل عام 2007 على شخصية العام من مجلة التايم ، حصل عام 2015 على الرقم واحد ضمن قائمة أفضل 100 شخص أكثر تأثيرا في العالم . كما حصل في أعوام 2013 , 2014 , 2015 و 2016 على المركز الأول في قائمة فوربس للناس الأكثر نفوذاً في العالم .
بداية النهاية :
انتهى الإتحاد السوفييتي رسميا في 26 كانون الأول 1991 باستلام الرئيس( بوريس يلتسن ) مقاليد الحكم وتوقيع رؤساء الجمهوريات السوفييتية على وثيقة حلّ الإتحاد السوفييتي.
ترتب على ذلك تفكك الإتحاد السوفييتي واستقلال بلدان آسيا الوسطى وحوض البلطيق والقوقاز، إلى جانب خروج دول أوروبا الشرقية عن الهيمنة السوفييتية
وقيام جمهورية روسيا الاتحاديه التي تضم إلى جانب الجزء الاكبر من روسيا التاريخية، سبعة أقاليم إسلامية صغيرة مجاورة لها .
كان طبيعيا أن تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية ومعها المعسكر الغربي بوجه عام ، هذا الانهيار انتصاراّ تاريخياً للمبدأ الرأسمالي، مع سقوط الشيوعية في حصنها الحصين ، وما سبقها من هزيمة للجيش السوفييتي في أفغانستان وانسحابه من هناك وما تبعه من تفكك الإتحاد السوفييتي، أُسدل الستار على أول تجربة لنظام اشتراكي يقوم على أفكار كارل ماركس وفريدريك إنجلز و فلاديمير أوليانوف( لينين ) . لكن يبقى الجدل حتى اليوم: هل كان السبب في انهيار الإتحاد السوفييتي خللاً في النظرية الاشتراكية ذاتها أم هو خلل في التطبيق؟
لاشك أن تطور الاشتراكية في الإتحاد السوفييتي حتى عام 1965 ، كان يسير في خط متصاعد. في فترة زمنية قصيرة تاريخيا تحولت روسيا القيصرية المتخلفة ذات العلاقات ما قبل الرأسمالية ، إلى بلد من أكثر بلدان العالم تقدماً وحداثة من حيث المقاييس الاقتصادية والاجتماعية. يعترف رئيس الوزراء البريطاني الراحل( ونستون تشرشل ) ، المناهض الشرس للشيوعية، أمام مجلس العموم البريطاني : ” لقد استلم ستالين روسيا وهي تملك محراثاً خشبياً ، وتركها وهي تملك قنبلة ذرية ” .
– فلاديمير بوتين وصناعة التاريخ الجديد:
في 31 كانون الأول 1999 استقال الرئيس بوريس يلتسن، متوجها إلى الشعب الروسي بخطاب معبّر :
” اطلب منكم الصفح عني لأن أحلامكم لم تتحقق، كما أطلب منكم الصفح عني لأنني لم أستطع أن أكون على قدر آمالكم ” . معلناً تسليم هذا المنصب إلى رئيس الوزراء، المعين حديثا والقادم من السلطة السياسية من عالم الاستخبارات الروسية، فلاديمير بوتين الذي فاز بعد ذلك في الانتخابات الرئاسية في 27 آذار 2000 .
– مبدأ بوتين : بعد استلامه لمهامه بموجب الدستور في السابع من أيار 2000 ، قدم الرئيس فلاديمير بوتين في حزيران 2000 مباديء أساسية لسياسة روسيا الخارجية عرفت باسم ” مبدأ بوتين ” .
وفي مقدمة تلك المباديء:
1- التركيز أولا ، على برامج الإصلاح الداخلي على حساب السياسة الخارجية، وعلى أن ” الأهداف الداخلية لروسيا الاتحاديه تلغي أهداف السياسة الخارجية الروسية ” .
2- الحفاظ على روسيا الإتحادية كقوة نووية عظمى .
3- تطوير دور روسيا الإتحادية في عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة .
4- العمل على استعادة دور روسيا الإتحادية في آسيا والشرق الأوسط بشكل تدريجي.
5- عدم السماح للغرب بتهميش الدور الروسي في العلاقات الدولية.
وأضاف” مبدأ بوتين ” أربعة عناصر جديدة للسياسة الخارجية الروسية وهي :
6- التخلص تدريجيا من نتائج ” الحرب الباردة ” التي تم التعامل فيها مع روسيا الإتحادية على اعتبارها الطرف المغلوب .
7- إذا استمر توسع حلف الأطلسي شرقا باتجاه روسيا الإتحادية، فسنعيد دعم الترابط بين دول الإتحاد السوفييتي السابق لحماية منطقة خط الدفاع الأول.
8- إن روسيا الإتحادية تعارض نظام القطبية الأحادية، ولكنها ستعمل مع الولايات المتحدة الأمريكية في قضايا عديدة مثل الحد من التسلح وحقوق الإنسان وغيرها .
9- ستعمل روسيا الإتحادية على دعم بيئتها الأمنية في الشرق الأقصى عن طريق تقوية علاقاتها مع الصين والهند واليابان.
– مراحل التحول نحو تأكيد المكانة العالمية لروسيا الإتحادية:
– مرحلة إعادة البناء أو ما يسمى ” عقيدة استعادة الدولة ” :
امتدت هذه المرحلة طيلة الفترة الأولى لحكم الرئيس فلاديمير بوتين واستمرت حتى نهاية فترة رئاسته الأولى ( 2000- 2004 ) .
ويمكن الاستنتاج أن الرئيس فلاديمير بوتين استطاع خلال الفترة الأولى من حكمه بناء نظام سلطوي قادر على إطلاق مسار الإصلاحات الاقتصادية تحت إشراف الدولة . ومن أجل بناء الدولة المركزية القوية أحاط نفسه بكثير من زملائه السابقين في جهاز الأمن الإتحادي معترفاً على الملأ بأنه يثق بهم ويحب العمل معهم . في هذه المرحلة خرجت روسيا الإتحادية موحدة في حقبة تاريخية عصيبة جدا تسبب بها الانهيار الجيوسياسي العالمي سقوط الإتحاد السوفييتي مع بداية عقد التسعينات من القرن العشرين.
– مرحلة بناء القوة العسكرية العابرة للقارات… عقيدة فرض الاحترام ” :
امتدت هذه المرحلة بين الأعوام ( 2005 – 2009 ) . كانت العقيدة العسكرية الروسية في هذه المرحلة في سياق التوجه الجيوسياسي العالمي الذي يقوم على بناء وتأسيس جيش قوي وقدرات عسكرية دفاعية وهجومية استراتيجية قادرة على مواجهة كل التحديات والتهديدات النابعة من مرور الشرق الأوسط في كثير من الحروب والصراعات الدولية.
خلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس فلاديمير بوتين( 2004 – 2007 ) ، واجهت روسيا الإتحادية كثيرا من التحديات الجيوسياسية العالمية، كان أخطرها على الإطلاق التدخلات المتزايدة في الشأن الروسي الداخلي والتهميش المتزايد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وارتفاع وتيرة التهديد الذي يمثله حلف شمال الأطلسي على الحدود الغربية للإتحاد الروسي، عبر المحاولات المستمرة لتوسيعه ليشمل بعض دول الإتحاد السوفييتي السابق، وذلك بضم كل من أوكرانيا وجورجيا. ويمكن القول أن الصعود الروسي بدأ يبرز بشدة ويتضح في الفترة الثانية لحكم الرئيس فلاديمير بوتين خاصة منذ عام 2006.
يعتبر ( يفغيني بريماكوف ) أحد أبرز صانعي توجهات السياسة الروسية المعاصرة، بأن روسيا الإتحادية قد بدأت عام 2006 مرحلة جديدة في نهوضها.
عمل الرئيس فلاديمير بوتين على عودة الاستقرار الأمني والانتظام العام وسيادة سلطة القانون إلى كل أنحاء روسيا الإتحادية، ما أكسبه شعبية واسعة في البلاد ، خصوصا بعد قمعه حركة التمرد في الشيشان، التي ما تزال ارتداداتها تتواصل حتى الآن ، على أشكال عنف متقطعة تحدث في جميع أنحاء شمال القوقاز.
ويجب أن لا ننسى السعي الغربي لتسليح جمهورية جورجيا والذي أسفر عن انفجار الحرب الروسية- الجيورجية في 8 آب 2008 .
لقد تشكلت العقيدة الروسية الثانية، خلال الفترة الرئاسية الثانية للرئيس فلاديمير بوتين وذلك من خلال الإجراءات التالية :
أولاً :
تجهيز القوات المسلحة الروسية بالعتاد الاستراتيجي القادر على مواجهة تهديدات حلف شمال الأطلسي وعلى رأسها الأسلحة النووية.
ثانيا :
الوقوف بحزم وقوة لمختلف محاولات التمرد والعصيان والانتهاك لسيادة الدولة الروسية أو تلك الجمهوريات التي تقع على حدود روسيا الإتحادية كما حدث مع جورجيا.
ثالثا :
الوقوف بجدية وحزم أمام محاولات توسع حلف شمال الأطلسي، واستخدام القوة لفعل ذلك إن اقتضى الأمر ، مع السعي لتشكيل تحالفات عسكرية مع قوى دولية تشارك معها مخاوف المساعي الأمريكية للهمينة على رقعة الشطرنج الدولية والأوراسية تحديدا كما هي الحال مع الصين.
– مرحلة تأكيد المكانة العالمية لروسيا الإتحادية ” عقيدة فرض التوازن الاستراتيجي ” :
تمتد هذه المرحلة بين الأعوام ( 2010- 2015 ) . وهي العقيدة الثالثة التي تتبناها روسيا الإتحادية في تاريخها الحديث. هذه العقيدة الجديدة التي أعلن عنها سكرتير مجلس الأمن الروسي( نيقولاي باتروشيف ) يوم الخميس 19 تشرين الثاني 2009 :
” العقيدة الروسية الجديدة لم تأت من فراغ ، بل جاءت رد فعل على استراتيجية الأمن القومي الأمريكي المعلن عنها والتي استبعدت روسيا الإتحادية من قائمة حلفاء وأصدقاء أمريكا في حربها ضد الإرهاب، على الرغم أن روسيا الإتحادية كانت ضمن هذه القائمة في استراتيجية عام 2002 .
في هذه العقيدة العسكرية الجديدة تم التأكيد على : إمكانية استخدام القوات العسكرية الروسية خارج نطاق روسيا الإتحادية، و توسيع المناطق الحدودية للإتحاد الروسي من مسافة خمس كيلومترات الى خمسة عشر كيلومتر وخاصة في الحدود الغربية لروسيا الاتحاديه، وبهذا تعود المنطقة الحدودية الروسية إلى ما كانت عليه في زمن الإتحاد السوفييتي . قد أحدث هذا القرار ردود فعل قوية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ولدى دول أوروبا الشرقية المجاورة لروسيا الإتحادية.
ختاماً :
إن اصرار القيادة الروسية على تلك الرسائل القوية التي تفيد إعادة التأكيد على مكانة روسيا الإتحادية الجيوسياسية والجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين على رقعة الشطرنج الدولية ، كذلك إضافة عامل الترهيب وزرع روح الخوف في نفوس أعدائها التقليديين والمتمردين على نفوذها التاريخي ، هو ما يستدعي التفكير كثيرا قبل التعرض لأمنها القومي ومصالحها الدولية للتهديد والخطر.
بقلم: فاتن الحوسني
ماجستير في الشؤون الدولية
باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية