من أولى أولويات الدول الناجحة التربيةُ والتعليم؛ لأنهما حجر الزاوية لتحقيق طموح الدول الراغبة في التقدم والاستقرار والسعادة والبناء الحضاري والمكانة الرائدة بين الدول، فالتربية تنشئ النشأ الصالح لدينه ومجتمعه وبلده ونظامه، والتعليم يفتح آفاق المعارف، ويجعل الشعب يواكب التطور العلمي والتقني والصناعي؛ فيصنع ويزرع ويطبب ويبني ويطور ويسعى للسبق في جميع المجالات، كما يسعى غيره..
إذاً فالتربية والتعليم هما اللذان يجب أن يكونا محل اهتمام الدولة التي تسعى للرقي والتقدم والصدارة، وهذا أمر مسلم به عند الجميع..
إنما الاختلاف في التصور الذي تكون به التربية نافعة، ويكون التعليم به ناجحاً محققاً لطموحها، فقد يراه قوم مجرد مناهج معدة تملى على الطلاب، ثم تصب نتفٌ منها من المعلومات المتلقَّاة في دفاتر الإجابة، وبه توزع الدرجات وتنال الشهادات.
وهذا التصور يجعل تلك الدولة في دائرة مفرغة، أو دور لا يفضي إلى سبيل، فلا هي سلمت من تكاليف التعليم، ولا هي نالت التطور المنشود، فيا ليتها أراحت واستراحت.
بينما تراه دولة أخرى هدفاً أساسياً منشوداً لابد أن ترى أثره قبل خبره، فترى شعبها راقياً في تعاملاته وسلوكه الحضاري قِيَماً أخلاقية مع نفسه ومع غيره في الداخل والخارج، وتراه قد نال واكتسب معارف متقنة لتصنع وتنتج وتنفع وتنافس، فلا يهدأ لها بال إلا بتحقق ذلك، وهذا هو سر النجاح والفلاح، وهو ما تسعى إليه دولة الإمارات العربية المتحدة التي تبذل الكثير من أجل تحقيق هذه الغاية القصوى من التربية والتعليم، فلذلك غدت مناهجها متطورة، ومدارسها رائعة، وطلابها يسابقون الأولين في صناعاتهم وفضائهم وابتكاراتهم، فهي تجني ثمار ما تبذل من العطاء في التربية والتعليم.. ومع كل ذلك فهي تنشد المزيد الفائق تقدماً وسرعة..
إن اهتمام الدولة بأبنائها تربية وتعليماً هو اهتمام بالثروة التي لا تنضب، والغنى الذي لا يقبل الفاقة، وهو ما عبّر عنه المغفور له الشيخ زايد، رحمه الله تعالى وطيب ثراه، بقوله في حكمته المشهورة: «الثروة الحقيقية هي ثروة الرجال وليس المال والنفط، ولا فائدة في المال إذا لم يسخّر لخدمة الشعب»، وترجم ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، حينما قال: «قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى رأسها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تنظر إلى الإنسان باعتباره أعظم ثروة تملكها الإمارات، وأنه هو رأس المال الحقيقي لهذا الوطن المعطاء». ولا يمكن لهذه الثروة الفياضة أن تنمو وتتطور وتثمر إلا بحسن تأسيسها، وكمال تعهدها، وجودة صناعتها، وذلك بتمكينها التمكين الكامل والأتم من التربية والتعليم،ومن هنا يأتي اهتمام الدولة، رعاها الله، بالتربية والتعليم عطاءً وتوجيهاً وغير ذلك.
وتبقى المسؤولية الكبرى بعد كل ذلك على الجهة المنفذة لهذا الاهتمام والعطاء، وذلك بجعل التربية سلوكاً واقعياً في الناشئة، تربية روحية إيمانية بالله تعالى، لا يكون للتفريط فيه سبيل ولا منفذ، مشتملة على مكارم الأخلاق وجميل الشيم والعادات، تعرف المعروف وتبتعد عن المنكر، فالإحسان منهج أساس في سلوك المعلم والتلميذ والإداري حتى يكون طبعاً ثانياً في الحقل التعليمي كله، وبذلك ستحقق العنصر الأول من مهمتها وهي التربية.
أما التعليم، فأن يكون تعليماً معرفياً قابلاً للتطبيق النظري، لا أن يكون حشواً معرفياً لا ينفع في الواقع، ولا يطبق في المستقبل، وذلك باستكشاف المواهب المختلفة في الطلاب، وجعل كل موهبة في مكانها الصحيح حتى تقبل النمو والتطور، وتسقى بماء المعرفة شيئاً فشيئاً، حتى يتكامل نضجها وتؤتي ثمارها اليانعة، فمن عسر عليه فن معرفي يمكنه أن يكون مبدعاً في آخر، وقديما قال عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ
وأجمل بقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حفظه الله: «مستقبل الأمم يبدأ من مدارسها».
د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي