|  آخر تحديث سبتمبر 5, 2017 , 18:48 م

#رنا_مروان | تكتب: فالقلب ينحاز (الجزء السادس)


#رنا_مروان | تكتب: فالقلب ينحاز (الجزء السادس)



في صباح اليوم التالي اصطحبني أبي إلى المشفى كما اتفقنّا ووعدته بأن أكون أقوى من المرّة الماضية, أخبرني بأن لا شك لديه في ذلك ومضينا. كان عليهم أخذ خزعة ٍ من نخاع العظم لمعرفة نوع سرطان الدم الذي لدي, فقد علمت بأنّ له نوعان الحادّ والمزمن وأن للحادّ منه فرصة ً للعلاج إذا ما أصيب به الأطفال, قمنا بعمل التحليل الذي طلبه منّي الطبيب وأخذنا نتيجة التحليل الأول الذي قمنا به في المرة الماضية والذي يُظهر هبوطا ً في جميع بيانات خلايا الدم الحمراء ما عدى ارتفاع ٍ ملحوظ في خلايا الدم البيضاء لم أفهم السبب في ذلك وللمرة الأولى قررت بأن لا أسأل كي لا أُّحبط ولكي اتمكن من مواصلة مشوار علاجي مطمئن الفكر قليلا ً, غادرنا المستشفى وفي جعبتنا العديد من الأوراق العائدة إلى التحاليل وبضع من علب الدواء التي قد صرفها الطبيب لي حديثاً, كنت أفكّر أثناء عودتنا بأن أذهب لأستطلاع المنزل ” ثلاثة من شارع ثمانية وثلاثين ” لا أعلم لم أثار فضولي ولكن كان من اللطيف بالنسبة إليّ أن أقوم بملاقاة ِ اناس قد قابلتهم أمي ويعرفونها وإن لم يكن تمام المعرفة, ثمّ خطرت لي فكرة بأنه إن كانت تلك العائلة في ذلك المنزل تعرف أمي ولم تخبرنيي أمي بأمرهم فلا شكّ بأن ما كان يجمعهم بها هو شيءٌ متعلق بمرضها, فلو لم يكن الأمر كذلك لما أخفت عنّي أمي أمرهم أبدا , حتّى لكنت ُ رأيتهم في منزلنا إثر زيارة ٍ لنا ولكن لا لم يسبق لأمي أن تحدّثت بأمرهم, يجب عليّ أن أكتشف من هم بنفسي.

استلقيت ُ على الأريكة فور وصولنا المنزل وغفوت لمدّة ساعتين ونصف, استغربت ُ من نفسي أن نمت بلا وعي ٍ هكذا ولأول مرّة ٍ منذ أربعين يوما ً فمنذ تلك الليلة التي ودعتني فيها أمي لم أنم كما يجب, ولكن يبدوا أنّه بتأثير الدواء الذي تلقيّته في وريدي هذا الصباح نمت نوما ً عميقا ً هذه المرّة, استـأذنت ُ من أبي وخرجت للمشي قليلا ً وذهبت ُ بإتجاه الشارع ثمانية وثلاثين, وقفت ُ أمام المنزل الثالث من ذلك الشارع وشخصت ُ بنظري نحو َ ذلك البناء القديم الضخم كان يبدوا لي غير مأهول ٍ بالسكّان خاصّة ً مع أوراق الشجر المتراكمة في فناء المنزل والتي يبدوا عليها أنها لم تُنظّف منذ الخريف الماضي, هممت ُ بالدخول إلى إليه إلى أن استوقفتني جارتنا في البناء المجاور قائلة: كيف حالك يا آدم؟ منذ زمن ٍ ونحن لم نرك َ تتجول في الأحياء يا صغيري؟ أوأمت ُ برأسي أي أنني بخير؛ فبالرغم من أنني كسرت حاجز اليأس والقنوط إلّا أنني ما زلت أحاول كسر حاجز الصمت الذي احتبسني, أو لعلّي قمت ُ بإحتباسه ِ في جوفي بنفسي, أخبرتني فيما إذا كنت أتسائل عن هويّة ساكني المنزل, أجبتها بأي نعم! هل تعرفينهم؟ هل هم الآن موجودون في المنزل؟ ضحكت الجارة أم زين وقالت لي: ماذا تقصد بهم؟ إنّها مجرد عجوز ٍ تقطن بمفردها يا آدم ولا أحد يقوم بزيارتها ولا تقوم هي بزيارة أحد ٍ على الإطلاق! تعجبّت من ذلك وشكرتها, ثم بادرت مغادِرة ً وأوصتني بأن لا أقوم بإقحام نفسي في مشاكل مع الجدّة تيريزا فهي لا تحبّ ذلك أبدا ً! أومـأت برأسي أي نعم! ثم غادرت هي واختفت بين الأحياء, ووقفت أنا ما يقارب العشرين دقيقة أتأمل المنزل المليء الخاوي وأفكّر في الدخول وكسر حاجز الخوف من أهل الحيّ لهذه الجدّة تيريزا, إضافة ً إلى جانب ٍ أخر منّي كان ينصحنّي بإتبّاع ما قالته ُ لي الجارة أم زين, وأثناء ذلك لمحت ُ أحدا ً ما يُراقبني من وراء ستار النافذة القريبة من الباب, كانت إمرأة ً مُسنّة ً بالفعل ولكنّها جميلة كانت ترتدي نظّارات ٍ على ما يبدوا وشعرها ينساب من على كتفيها أبيض إلى دخاني اللون وتتكىء على شيءٍ ما لعلّه عكّاز, توارت عن الأنظار ما إن شعرت بمراقبتي لها فقررت حينها قرع الجرس وطلب إذن للدخول, لم تجب ولم تظهر على النافذة من جديد, قرعت الجرس ثانية ً فلم تجب, تأنيت عند المرّة الثالثة لعلمي بأنّها الفرصة الأخيرة المتاحة لي؛ فقد علّمتني أمي أن لا اقرع الجرس أكثر من ثلاث مرّات, حتّى وإن لم يجب أحد فإن عليّ الإنصراف فهذا من آداب الإستئذان! قرعت الجرس للمرة الثالثة مع أخذ نفس ٍ عميق ثم قررت بأن أصارحها بسبب مجيئي لعلّها تفتح لي الباب فيما إن كانت تسمعني, جدّة تيريزا, أنا آدم إبن السيّدة مرجان, جدّتي أعتذر عن إزعاجي لك ِ في هذا الوقت ولكنّي قد وجدت ُ عنوان منزلك مكتوب ٌ على ورقة ٍ في جيب معطف أمي, وفكّرت في أن أزورك ِ لعلّك ِ تحدّثيني عنها قليلا ً, أنا متأكد بأنّك تعرفينها, وتعرفينها جيّدا ً خلال فترة مرضها على وجه الخصوص, فهي لم تحدّثني عنك ِ إطلاقا ً وقد أخفت مرضها عنّي ورحلت بدون أن تشاركني ذكرياتها معه وقد فكّرت في أنّك قد تعرفين بعضا ً من هذه الذكريات؛ فقد أخفت أمي عنّي مرضها وكل من كانوا يعرفون به, أعتذر ثانية على إزعاجك, سأقوم بزيارتك في وقت ٍ لاحق, إلى اللقاء جدّة تيريزا, أرجوك ِ لا تبخلي علي ّ بما تعلمين فأنا بأمس الحاجة إلي كل شيء متعلّق بها, ثم اندفعت ُ خارج أسوار المنزل إلى أن سمعت ُ صوت َ أقفال المنزل تُفتح إلتفت ّ ورائي وإذ بالجدّة الجميلة تنظر إليّ وتقول: انت إبن مرجان ٍ إذا ً هيّا ادخل, بقيت ُ متحجّراً مكاني؛ فلم أتخيّل بأنها ستفتح لي الباب أبدا ً حتى أن شعور الندم بدأ يعتريني وأنا أخطوا خارج عتبة منزلها, سأغلق الباب قالت هي يبدوا أنّك قد غيّرت فكرتك في الدخول! أجبتها نافيا ً: لا, لا أيّتها الجدّة أنا لم أغيّره إطلاقا ً وبدأت أخطوا نحو الباب بخطوات أخف وقْعا ً من المرّة الأولى ولكن بدهشة ٍ كبيرة في ملامحي, أنا واثق بأنّ ملامح الدهشة ما كانت لتختفي َ أو تتوارى عنها فقد كانت واضحة ً وضوح الشمس.

 
دخلت ُ منزلها وألقيت ُ عليها التحيّة بإحترام ٍ وردتّها عليّ هي, يبدوا بأنها لبقة قلت في نفسي, وراقية أيضا ً فتفاصيل منزلها لا تقلّ إبهارا ً عن تفاصيل قصر ٍ صغير في أحد الأحياء الفخمة لرجال الأعمال الكبِار, لقد ذاع صيت ُ منازلهم الفاخرة ذات مرّة بانها كانت الأجمل على الإطلاق وقد شاهدت ُ هذا النوع من الاناقة بأم عيني إثر زيارة ٍ لنا لأحدهم أنا وأبي وأمي بعد دعوته ٍ لنا على العشاء ذات يوم, قاطع شرودي صوت الجدّة تيريزا قائلة ٌ: يبدوا أن المنزل قد أعجبك وأنت تتسائل في نفسك الآن عن تناقض خارج المنزل مع داخله أليس كذلك؟ أو لعلّك تقول: ماذا تفعل إمرأة ٌ عجوز مع كل ّ هذا الأثاث الفخم والأناقة, لا شكّ بأن هذه مزحة ٌ خفيفة! أجبتها نافيا ً لا, لا أيتّها الجدّة أنا فقط منبهر ٌ بشدّة جماله فقد شاهدت هذا النظام من الترتيب والأناقة في أحد بيوت رجال الإعمال ذات يوم, هل أنت منهم يا ترى قلت ُ مازحا ً! ولكنّها لم تجبني, يبدوا أن المزحة لم تعجبها, فقد بادرت هي َ سائلة إيّاي حليب ٌ بالموز أم بالشوكولاته؟ تعجبّت أنا من السؤال, فكررت سؤالها قائلة ً: حليب ٌ بالموز أم بالشوكولاته يا آدم إبن مرجان اللطيفة؟ أنا لا أنوي أن أُتعبك ِ أيتها الجدّة تيريزا, آن قاطعتني, اسمي هو آن من أخبرك باسم تيريزا لا يعرف إلا وجه تيريزا فسحب, يبدوا أنّه لم ير وجه آن إطلاقا ً! على أيّة حال, بالموز أم بالشوكولاته يا آدم؟ بالشكولاته جدّة آن, بالشكولاته! حسنا ً مارتا نادت الجدّة بإمكانك أن تصنعيه ِ بالشكولاته, مارتا! من هي مارتا؟ قلت في نفسي ألم تخبرني الجارة أم زين بأنها تقطن لوحدها من أين جاءت مارتا الآن؟ يبدوا أن أهالي الحي لا يعرفون إلا وجه تيريزا كما أعربت هي, قدمت مارتا وفي يدها كأس ُ حليب شكولاته وبعض قطع الكيك ذي الرائحة الزكيّة, يبدوا أن ّ هذا الكيك طازج ٌ للغاية, أحببت ُ ظرافة الجدّة وشكرتهما هي ومارتا على لطفهما ثم وضعت مارتا الأطباق على الطاولة وانصرفت, ثم قالت الجدّة: أنت ابن مرجان ٍ إذا ً, أومأت برأسي أي نعم! وقد رحلت مرجان منذ أربعين يوما ً وها هو اليوم الواحد والأربعون يمضي, أومأت برأسي أي نعم للمرة الثانية وقد تحجرجت الدموع في عينيّ, لا تبك ِ يا صغيري فدموعنا تحزنهم أكثر, إن الأموات يفرحون َبدعائنا لهم أكثر, مسحت ُ دموعي وأكملت الجدّة قائلة: لقد حدّثتني أمك عنك كثيرا ً وقد كانت تخشى أن تذهب دون ان تتسنى لها الفرصة بأن تشرح لك سبب ذهابها, لقد كانت تخشى عليك دائما ً بعد ذهابها وها هو ما كانت تخشاه قد بدا عليك نوعا ً ما فأنت تبدوا منهكا ً للغاية, لقد أحضرت لي صورك كثيرا ً, لقد كنت تبدوا أفضل بكثير أنا على ثقة ٍ بذلك, كدت ُ أقول بأن هذا ما سببه المرض ولكنني تراجعت في الوهلة الأخيرة خوفا من أن أثير استعطافها فتختصر الكلام عن أمي في جوفها خوفا ً عليّ لكي لا أحزن وتزداد حالتي سوءاً!! فأخبرتها في أنني أعاني من نقص ٍ حادٍّ في الفيتامينات وأن قوة الدم قد انخفضت لديّ بعض الشيء, تجهّم وجهها وشعرت ُ بأرتباكها ما أن قلت ُ كلمة دم! افترضت أن ذلك الإرتباك جاء بفعل مرض أمي فتيقّنت بأنّي اتخذت القرار الصائب بعدم إخبارها بمعاناتي.

شردت الجدّة في النافذة وقالت: لقد كانت أمك محاربة بحق, لقد كانت أقوى إمرأة ٍ عرفتها في حياتي, لقد أحببت ُ قوتّها, لطفها, برائتها وزمردّية بسمتها, لقد كانت كلماتها تسري كالمسك في عروق سامي فور تحدّثها إليه, لقد كان يحبّ كل شيءٍ فيها, قاطعتها أنا سامي! من هو سامي؟ إنّه حفيدي من ابني آرثر وزوجته الرقيقة حُور, ثمّ تقدمت بإتجاه الطاولة وأخرجت ألبوم صور ٍ كبير وفتحته برفق ٍ ثم أشارت باصبعها هذا هو َ سامي, وبدأت تتحسسه برفق! يبدوا أنّها تحبّه ويعني لها الكثير, تعال َ وألق ِ نظرة ً عليه لقد كان بعمرك أمدّ الله في عمرك وبارك فيه, ثم سقطت من عينها دمعة وبدأت تتمتم في نفسها يجب أن لا نبكي على الموتى ومسحت دمعتها بسرعة! ألقيت ُ نظرة ً على سامي وقد كان َ طفلا ً جميلا ً بالفعل, بلون شعره البنيّ وعيناه اللوزيتان ِ بلون البن ّ وببشرته البيضاء الجميلة, فليحفظة المولى لأبويه جدّة تيريزا, أعتذر أقصد آن, جدّة آن, إنّه عندهما الآن, مجتمعون جميعا ً ينظرون إليّ ويراقبونني بصمت, هل هم في الجوار جدّة آن؟ بدت مشاعر الحزن والحسرة على ملامحها وهي تجيبني: إنهم في السماء يا آدم يرقدون َ بجوار أمك. آه أنا أعتذر, اعتذر وبشدّة لم أكن أعلم بذلك, لا تعتذر يا آدم فلو كان الإعتذار يعيد لنا ما فات لأمضيت ُ عمري معتذرا ً ولو كان في دموعنا عودة ً لمن رحلوا لبكيت حتّى جفّت دموع عيني, ولو كان في الذكريات ألم ٌ لأحرقت الصور بما احتوت؛ ولكن ّ لنا في الفكر ألبوما ً, بل أرشيفا ً يقوم ُ بفتح نفسه ِ بنفسه ِ وتلو الذكريات علينا رويدا ً رويدا ً ولنا في القلب عيون ٌ تبكي من ألم الفراق وتهيم حسرة ً من الإشتياق على من افتقد وجودهم, لا عليك يا صغيري, فما تعاني منه أنت أعاني منه أنا مضاعفا ً, فقد فقدت ُ ثلاثة ً من أحبّ الأشخاص على قلبي, ثلاثة ٌ كانوا كل من لي في هذه الدنيا, فقدتهم وفقدت من بعدهم نفسي وأصبحت أنا التي أمامك الآن, أنا التي لا تعرف عن نفسها شيئا ً سوى الحزن والألم.

 

لقد كان كلام الجدّة آن مؤثر ٌ جدّا ً, حتى إنني لبكيت ُ من دون أشعر بذلك وقد وجدت نفسي محتضنا ً إيّاها بلا مقدّمات, فطبطبت ُ على ظهرها لمواساتها أو لعلّها تجد فيّ حنيّة حفيدها سامي ولكنّها سرعان ما مسحت دموعها فابتعدت ُ عنها واعادت هي الألبوم إلى مكانه ِ وكأنها كانت تقوم بمواراة حزنها عنّي من بعد أن أظهرته ُ لي بالكامل منذ قليل, فأدركت ُ حينها بأنّ عليّ الإنصراف لتركها ترتاح بعض الشيء ففي عمرها المتقدّم كان من السيء جعلها تحزن إلى هذه الدرجة, أستسمحك عذرا ً أيتها الجدّة, يجب عليّ الذهاب على الفور فقد ينشغل أبي لغيابي كل هذه المدّة كما أن علي ّ تناول أدوية محددة في هذه الساعة, أشكرك على ضيافتك اللطيفة وقد كانت خطوة ً جميلة منّي بأن بادرت وتعرفت على إمرأة مثلك, برأيي أنك لا تشبهين ما يصفونك ِ به في الخارج فأنا قد أحببتك ِ وآمل بأن تحبّيني أيضا ً, يبدوا لي بأننا سنقوم بمداواة بعضنا البعض, رأيت ُ إبتسامة ً طفيفة ً تعتلي وجهها ولكنّها سرعان ما اختفت, وعند الباب أخبرتها بأنني سأقوم بزيارتها غدا ً في الصباح, لم تبد ِ الجدّة أيّة ردّة فعل غير أنها أوصتني بأنّ أقوم بشرب الحليب يومياً وغادرت المنزل بهدوء وهي لا تزال تتمتم قائلة ً: إنه مفيد ٌ يا آدم, اشربه! لقد كانت غريبة ً بالفعل ورائعة ً أيضا ً فإهتمامها بطفل ٍ صغير اخرق عالمها هكذا فجأة أمر ٌ نادر, وقد بقيت واقفة ً تراقبني أمشي إلى أن اختفيت ُ أنا واختفت هي الأخرى بشعرها المنسدل الجميل وعيناها اللتين قد تبيّنتا لي بلون البحر بعد أن جلست بجانبها وقلبها الرقيق الذي تحاول جاهدة ً أن تواريه ِ عن ناظريها بإبتسامة ٍ توهمك بأنّها صلبة ٌ وقاسية, لقد أحببتها الجدّة تيريزا التي تسمّي نفسها آن, يبدوا أن لإسم آن حكاية ٌ مشوّقة آمل أن ترويها لي ذات يوم فأنا متلهف ٌ لذلك.

في الطريق أخذت ُ أفكّر بجلستي مع الجدّة آن, لقد تيقنّت ُ من وجودي معها لهذا الوقت القصير بأنها الشخص الذي أحتاج إليه بالفعل في هذه الأوقات, فأنا أفتقد ُ في حياتي ذلك الشخص الذي خاض تجارب َ عديدة ٍ ومتنوعة, وذاق من الدنيا المرّ والجميل وعاش إزدهار الصعود ومرارة الهبوط عدّة مرّات إلى أن تأقلم وأصبحت لديه ِ مقدرة ٌ على التعامل مع الظروف جميعها بالشكل الصحيح, يبدوا لي أن داخل الجدّة متأجج بالألم وأنّ خارجها المتماسك هشٌّ في الواقع؛ ففقدان ابنها وزوجته ُ من جهة وحفيدها الوحيد من جهة أخرى أمر ٌ قد أثّر فيها كثيرا ً, إنها مثلي مليئة بالالآم ِ المتراكمة وتحتاج إلى من يقف إلى جانبها ليخفف عنهـا عناء الوحدة والإكتئاب, أنا متأكدٌ بأنّ لكلانا ذكريات ٍ مؤلمة تمنعنا من المضي المضي قدما ً في هذه الحياة كما الجميع ويبدوا أن اجتماعنا سوف يفيد كلانا إذا ما تعاونّا في بناء ذكريا ت ٍ جديدة, أصابني الألم عندما تذكّرت بأنها قد تغضب ُ منّي إذا لم أخبرها بحقيقة مرضي وأخشى الآن أن أذهب بدون أن تتسنى لي الفرصة بتبرير تركي لها بعد أن اقتحمت ُ منزلها وعالما, الآن أحسست ُ بشعور أمي وما كانت تعنيه بأنها لم تستطع أن تُدخل الألم المرّ إلى قلبي بإخباري عن معاناتها, فأنا الآن عاجز ٌ عن إدخال ذلك الألم أيضا ً إلى قلب الجدّة, خاصة ً بعدما علمت ُ بما تعانية من ألم الفقدان والحسرة, يبدوا أن إخبارها بحقيقة مرضي سيأخذ منّي بعض الوقت فأنا بحاجة ٍ إلى الزمان المناسب والمكان المناسب أيضا ً, فهي مسنّة ومن غير الجميل أن أتسبب بإنهيارها لا قدّر الله, يبدوا لي انها أحبتّني, لم تعترف هي بذلك ولكنني أشعر به, إنها ودودة أتمنى أن أشاطرها العديد من الأيام وأن أسعدها وأبني معها أجمل الذكريات.
عدت إلى المنزل حاملا ً معي تفاصيل مغامرة ٍ لذيذة نوعا ً ما لم أذق مثلها في حياتي أبدا؛ فالجدّة تيريزا كانت مختلفة ً عن جميع معارف أمي رحمها الله, كنت ُ مترددا ً في إخبار أبي عن ماهيتها؛ ليس لأنه من الممكن أن لا يحبب ذهابي إلى ذلك المنزل من جديد, فأنا متأكد ٌ بأن أبي على علم ٍ بالجدّة تيريزا وعلاقة أمي بها ولكنني كنت أفضّل أنا أبقى على علاقة ٍ مختلفة ٍ معها فقد راودني إحساس بأن قلبها ومنزلها سيكونان ِ لي مثل كبسولة ٍ تسافر بي عبر الزمن الماضي والمستقبل, ملجىءٍ أهرب ُ إليه ما إن ضاقت في داخلي الدنيا يوما ً ما أو ما إن ضاق الدم على عروقي من جديد ٍ فحوّله إلى دم ٍ أبيض كالمعتاد! فهذا ما كنت أتخيله ُ عندما كان يخبرني الطبيب بأن كريات الدم الحمراء المسؤولة عن اللون الأحمر لدمائنا تتناقص لدي ليحلّ مكانها كريات الدم البيضاء التي لا لون َ لها؛ ولكن نظرا ً للون ِ تلك الطبقة المتكوّنة بين خلايا الدم الحمراء وبلازما الدم أثناء عملية الطرد المركزي للدم والتي أجراها الطبيب أمامي ليشرح لي بالتفصيل عمّا يحدث معي بالتفصيل في دمي بعد أن لم أستطع مقاومة فضول المعرفة الذي لدي, فإن تلك الطبقة الوسطية كما قال الطبيب تحمل في داخلها خلايا الدم البيضاء وصفائح الدم يظهر لونها بعد إتمام عملية الطرد المركزي باللون الأبيض ومن هنا جاءت تسمية خلايا الدم البيضاء بالفعل! كان مرضي يزيدني علما ً يوما ً تلو الآخر, أكاد ُ أجزم بأن لديّ الآن مخزون ٌ عن علم الدم يفوق ما كان يتطلب منّي عمري معرفته ُ أكثر بكثير.

 

 

بقلم: رنا مروان – ( الأردن )


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com