تهيأت و أنا ارتجف لم أكن أرى إلا ظلال أبي و أخوتي، تتحرك سريعاً في أرجاء الغرفة بين خزانة الملابس و الحقيبة المتربة بحركة متواترة مملة، يديّ مستسلمتان إلى أسفل جذعي. لطالما و بختني أمي و هي تعدني للمدرسة؛ كي أقف دون حراك، لكن ما أثار دهشتي أن اليوم جمعة و معاملتها لي كانت ألطف إلى حد ما، و ما زاد من دهشتي جداً، أنها لم تنهرني و لم تشربني كأس الحليب عنوة كان كل شيء فيها هادئ بشكل غريب.
لم يمضي كثيراً من الوقت، بضع سنوات مرت لا أحبذ ذكر عددها، محاولة تعدادها فقط تصيبني بغثيان يصحبه تقيؤ كميات كبيرة من الصور القديمة و الذكريات، أمي…كوب من الحليب…تهشم الزجاج…صمت…و اختفت أمي.
كلما حاولت الكتابة وجدت نصي هزيل الأفكار ضامر الحروف و لازال كذلك، فقدت مقاييس الكتابة الجيدة حين تخليت عنه، لكنني حقا افتقده، دفتر مذكراتي ذاك البريء من عبرات حب المراهقة الأول، البعيد عن أمنيات أدركت الأن أنها مستحيلة التحقق، حين كنت أظن أنها تختبئ تحت أظافري المقلمة خشية أستاذ المدرسة السمين صاحب الشارب العريض و عصاه النحيلة.
ذلك الدفتر الفارغ من دوامة الأسئلة التي لطالما كانت إجاباتها نوبات من الصراخ و التوبيخ.
دفتري يخلو من صراعات عائلية كنت طرفاً فيها رغماً عني، ربما لن أتمكن من استعادته قبل أن يكتبوا به خوفهم و صفات كثيرة أخرى، و قبل أن تطرق مسامعه تلك الرصاصات، كم كانت غريبة و مفاجئة، محملة برغبة الاكتشاف أكثر مما تكون أعدت حتى تقتل. كتبت فيه الدقائق و الساعات، و الرصاصات التي تجردت من قناعها الزائف مع من تبقى على قيد الحياة.
وددت لو يبقى خالياً من خبث بعض الأقلام المريبة، كان بالإمكان الحفاظ عليه.
كان بريئاً لا يوجد به شيء إلا اسم حبي الطفولي و محاولات فاشلة لتزوير توقيع والدتي، إلى جانب حكايات الجدة التي أعدنا صياغتها أنا و صديقي.
إلى الأن تبقى القليل، أصابهم الظمأ، شربوا المياه المالحة حتى اختنقوا أما البقية فقد لفوا بما تبقى من دفاترهم لفافات تبغ.
أذكر أنني في تلك الليلة خبأته تحت وسادتي خشية فقدانه، و لكن عندما قُرعت أجراس الرحيل خاصمتني طفولتي و ولت بعيداً متدثرة بأولى صفحاته، أظن أنه مازال هناك ينتظرني رافضاً أي صلح، ربما يميط اللثام عن حرف غُطي بالركام حتى صار بلا معنى.

بقلم: محمد مجد الشيخة – ( سوريا )