|  آخر تحديث مارس 7, 2017 , 15:08 م

رنا مروان تكتب: فالقلب ينحاز ويحن إلى موطىء النبض والقدم .. إلى قلب أمه وإن رحل | الجزء الثاني


رنا مروان تكتب: فالقلب ينحاز ويحن إلى موطىء النبض والقدم .. إلى قلب أمه وإن رحل | الجزء الثاني



لطالما كنت أرى وجه أمي وهو مشرق ٌ متفتَّح ٌ بأجمل أنواع الورود, ولطالما أفاضت علينا من عبير الود ِّ بإبتسامتها, وكم هي المرّات التي رأيت ُ فيه شموخها يتجلّى أمام أعيننا مهما أحل ّبنا من ألم, ولكنني لا أنسى أبدا ً كيف بدت هيأتها في آخر ليلة ٍ لنا معها هي َ وأبي وكيف كانت تحمل مخاوفها وأفكارها على كتفيها, وكم كان هذا الأمر الذي أرهقها يخنق جمال مُحيّاها.

ليتني كنت أفقه ُ حقيقة عجزها وصمتها الصارخ في جوفها, ليتني كنت أفقهه ُ كما كانت تفقه ُ حقيقته هي َ! ويا ليتها لم تخبرني به حتّى! وأخذتني معها من دون مقدّمات ولم تسلب منّي موطني! ولكنّها اعتذرت مني بطرقة أخرى قبل ذهابها, طريقة ٍ لم أفهمها عندما قالت لي: ” نعم يا صغيري وسأظل ُّ بإذن الله لك ملاكا ً لا يفارقك وإن ابتعدت عنك أو أخذَت منك موطنك َ في قلبي ” وكأنها كانت تعلم بإقتراب أجلها وإنتهاء تذكرتها للمكوث ِ في هذه الدنيا, وكـأنها كانت متيقنّة ً بأنها لن تستطيع درئ هذا الأمر عنها.

وها أنا ذا طفل ٌ صغير ٌ في دنياي َ وحيد, أُخاطب نفسي وشعور العجز يقتلني, لا قدرة لي على الوقوف فقد رحلت عني سندي ولا راحة لي لأستقر َّ في موضعي! حتى موطن اللجوء لي وهو قلب أبي كان قد فقد جغرافيتة التي استقرت في قلب أمي. أصبحت ُ اُناشد الفضاء الذي ضاق بي وارتأت إليه على حين غفلة ٍ روح أمي, ويا لقساوة الأسى الذي كان يعتصر في قلبي عندما أتذكّر ماضيي المبهج معها, ويا لذلك الصمت الصارخ الذي خيّمت أوتاده ُ في روحي, ويا لتلك َ النسائم الكئيبة التي اجتاحت منزلنا وأمي ممددة ٌ على سريرها أناظرها من بعيد النظرات الأخيرة مخاطبة ً إيّاي بروحها, كان يُهيأ لي في كل ِّ لحظة أنها نائمة ٌ كملاك ٍ صغير في عبائته ِ البيضاء الناعمة ولكن سرعان ما كانت تختفي هذه الأفكار بتربيث الناس على يدي لتعزيتي وإني أشهد الله بأني لم أميّز من بينهم أحدا ً ولا حالا ً فقد كنت أبحث في عيون الجميع عن نظرة أمي. كنت أود ُّ أن أضمها للمرّة الأخيرة ولكنني كنت أخشى أن أضمها فلا تبادلني هي الضمة والحنان! كنت أرغب في تقبيل وجنتيها اللتان ِ لطالما تفتحت فيهما زهور العالم أجمع برؤيتي ولكنني خشيت من مشاعر أن لا تعاود هي تقبيلي, أو لعلّي كنت أخشى من برودة جسمها! كنت أريد إخبارها بأنه إن لم تفتح لي عيناها هذا اليوم فلن أتمكن َّ من رؤية إشراقة الشمس ثانية ً ولكنني خشيت من أن لا ترد ّ علي! لعلّها غاضبة ٌ منّي! لعلّها لم تقوى على الإستمرار في الجهاد في هذه الدنيا من أجلي! لم أكن أود الإقتراب منها لتصارحني بكل ما يخيل إلي ّ فلا أتحمل حزنها بسببي! تسمّرت في موضعي على الأريكة المقابلة لسريرها وأشعة الشمس بإنكساراتها تتهادى على وجنتينا دون حراك مني ولا منها, تسمّرت في موضعي وأفكار الموت والحياة, الذهاب والإياب تدب في داخلي أجمع, إلى أن كسروا هدوئي عندما عاودوا تغطية وجهها الجميل استعدادا ً لوضعها في الكفن وحملها على أكتافهم والذهاب بها إلى اللاعودة! أدركت حينها كم أنا ضعيف ٌ وعاجز, وكم بدت ظاهرة ً معالم ُ الإنهيار في ملامحي, وفي كل خطوة ٍ كانوا يتقدّمون بها نحو الباب كان يتقدّم قلبي في داخلي قرنا ً كاملا ً من العذاب, إلى أن خرجوا بها من المنزل, نظرت ُ إليه بعد لحظة ٍ واحدة ٍ من خروجها فلم أره ُ إلا فراغا ً وسرعان ما آل أمام ناظري َّ إلي َّ إلى الرماد ْ! فركضت خلفهم لأتبع موطني, منزلي وكل َّ حياتي, وصرخت فيهم: أن دعوا لي أمي!! اعترضت مقدمة مسيرهم وناديت ُ أن لا تتركيني لوحدي يا أمي!! وجثوت ُ على قدمي َّ وهمت ُ في غيبوبة لم أعلم بعدها تفاصيل ما كان يجري, ولكنّي لم أكن أعلم بأن روح أمي حينها طلبتني فأغمضت عينيَّ ورأيت ُ أمي وهي تقدُم إلي ّ مرتدية ً ذلك الثوب الوردي الذي لطالما أخبرتها بأنه الأجمل عليها وأمسكتْ لي يدي َّ وشدّت بضعفي إلى حضنها كما فعلت عند ولادتي وهي تعتذر مني: أعتذر منك يا بني فأنت تبكي الآن بسببي, بدأت تداعب قسمات وجهي وكأنها تحاول حفظها أو أخذها معها ثم عاودت ضمي إليها وقالت: صدّقني يا بنيَّ لو كان للأمر حيلة بيدي لم تركتك َ تُعايش شيئا ً من الفقدان يا صغيري, ولكنّه أمر الله ورحمته وقضائه وقد زرعت فيك حبّه فلا تقنط من رحمته التي وسعتني ووسعتك ووسعت كل ِّ شيءٍ في هذه الدنيا, ولا تُفرّط ببري وإن غبت عنك َ؛ فأنا الملاك الذي لن يفارقك وإن حملتك تسعة َ أشهر ٍ في جوفي فستحملني أنت َ طيلة الدهر في قلبك الذي صار من الآن #موطني فاعتن ِ جيّدا ً بقلبك لا لأنه قلبك الذي أحبه فحسب! بل لأنه موطني أنا أيضا ً, احتويني فيك وضمّني في حنايا روحك ولا تُخرجني, استجمعني فيك ولا تتركني, هيّا يا صغيري استنهض قلبك كان الله في عونك, ثم َّ شبكت يدها بيدي ووضعتهما على قلبي وقالت: أنا منذ اللحظة هنا يا بني َّ الجميل, قبلت يدي قبلة الوداع الأخير وقالت: وداعا ً يا صغيري, ألقاك َ في الجنة يا ملاكي, وغابت أمي.

كنت أرغب ُ في أن تكلّمني بعد أكثر بصوتها الشجي ِّ الحنون فقد اشتقت إليها كثيرا ً, لم أشأ مقاطعتها؛ لأن لا فائدة من كلامي وأنا أراها تتجلّى بجمال ٍ أمام ناظري َّ بأم عيني, بدأ ذلك المشهد الذي وضعت به ِ يدينا على قلبي قائلة ً: أنا هنَـا, هذا موطني يعاود ُ تكرار نفسه في فكري. شعرت ُ بأستفاقتي من نداء روح أمي لي وتبدد ذلك النور في عيني َّ إلى ظلام ٍ من جديد, استفقت ُ وشعرت بيدي اليمنى وهي تحط رحالها على قلبي, استشعرت ُ نبضي ولوهلة ٍ ظننته ُ مزدوجا ً بنبض أمي, ولم أكن أرغب مفارقة هذه اللحظات التي قطعها صوت أنفاس والدي وقد شعرت بها تستقر على وجهي, فتحت عيناي المثقلتان ِ بالدموع والأسى فوجدت نفسي في حضنه الذي لطالما احتواني أنا وأمي, حضنته ُ ومسحت ما تبّقى من دموعه على وجنتيه وقبّلته ُ فأحس ّ بحرارة قبلتي فاستفاق قائلا ً: الحمد لله أن ردّك إلي ّ يا صغيري إلى أن ضمنّي من جديد ورحنا في أحضان بعضنا نبكي, يواسي قلبنا الآخر, إلى أن استجمعت قواي َ لأسأل َ أبي عن سبب مغادرة أمي لنا وذهابها!!

وخاطبت ُ أبي بنبرة طفل ٍ صغير لا تكفيه قواه لتصديق ما ألم َّ به: ما الذي داهم أمي هكذا فجأة يا أبي؟ لم غادرت هذه الدنيا بهذه السرعة؟ أخبرني هل قصّرت في حقها؟ هل أتعبتها أنا إلى هذه الدرجة, لتذهب مدبرَة ً عنّي؟ أرجوك أخبرني يا أبي فدوامة الأفكار في داخلي تقتلع من مهجتي نصيبا لا أستطيع مجابهته !!
فأخبرني أبي بصوت ٍ مثقل بأن لا ذنب لك مطلقا ً يا صغيري, وقد تركت لك أمك مكتوبا ً سيجيب ُ عن كل تلك الأسئلة في مخيلتك. قلت: له لا يا أبي فأنا لا أقوى على قراءة رسالة ٍ خطتها لي أمي بكلتا يديها, فأنا عاجز ٌ عن تصديق ما أحل َّ بي, فكيف لي أن أشتم َّ رائحتها في تلك الرسالة يا أبي؟! فلم يجبني أبي, وبحمله لي ووضعي على السرير موضع نوم أمي ومغادرته الغرفة دون أدنى كلمة ٍ منه وكأنه كان يواري دمعاته ِ عنّي أدركت ُ بأن الثقل َ الذي اجتاح قلب والدي قد استقر َّ فيه بكامل قواه وآلامه ِ وأن لقلب أبي الشامخ القوي الحق َّ أيضا ً في الحزن والبكاء كما يملك ذلك الحق قلبي الضعيف, ولا أعلم حينها كيف تذكّرت كلام أمي لي عن أبي, فلطالما أخبرتني ونحن نناظره ُ مستلقيا ً على الأريكة شبه نائم ٍ وبضع مستيقظ بعد يوم طويل وشّاق ٍ في العمل بأن ّ ذلك الرجل القوي الذي تراه مستلقيا ً على الأريكة يا صغيري, ذلك السند ذو الأساسات المتينة والصلبة لك ولي في هذه الحياة يقبع ُ في داخله طفل ٌ بروح ٍ مرحه وشاب ٌ ذو عقل جنوني, على إحدى جفنتي عينيه ِ يحمل قلبك والأخرى تحمل قلبي, وإذا ما دققت في عينيه حين يفتحهما ستجد وكأنهما شراعان ِ لسفينة الحياة التي تحملني وإياك َ على ظهرها دون ملل, ولو دققت فيهما أكثر لوجدت لبؤبؤتي عينيه إشراقة ًوضياءا ً يفوقان نور الشمس في حُسنهما, صدّق بأنّي ما عرفت ُ ما الذي يعنيه الناس بجمالية نور الشمس منذ أن عرفت ُ أباك بعينيه المفعمتين بالحياة والرضى, فقد وجد نور حياتي في عينيه وقلبه, أتعلم!! عندما وافقت ُ على الأرتباط ِ به إذ تقدّم لخطبتي من والداي ارتسمتْ على وجه أبيك ابتسامة انتصار ٍ بإمتلاك قلبي في حياته وحدَه, ابتسامة ٌ ما زلت إلى اللحظة أعايش شعور الغبطة بها إذ أراه يمنحني إيّاها صباح مساء, وعندما علمنا نبأ قدومك إلى هذه الدنيا لتعانق معنا فرحتنا وتُكمِّلها ببراءة وجودك بكى في حضني بكاء طفل ٍ صغير لا تسعه الدنيا من شدة الفرح, واللهفة التي انتظرنا ولادتك بها لا أزال أذكر تفاصيلها جمالا ً بجمال, ولا أنسى دموع والدك َ إذ رآك َ لأول مرّة وهو يقول لي بأُلفة بعينان ينبضان حبّا بما يسكن ناظريهما: انظري كم هو صغير يا مَرْجان, هل سنستطيع حمايته ُ يا عزيزتي وهو بهذا الجسم الرقيق والهش ِّ كبتلات الورود؟! أجبته ُ يومها: أن بتلات الورد ِ التي أمامك َ هذه ما جاءت إلا ثمرة حبي وحبّك ويوماً ما بإذن خالقهما ستكبر هذه البتلات وستنموا وستعطي شجرة عائلتنا فرعا ً آخر اسمه الأحفاد, فكن مستعدا ً جيّدا يا عزيزي لمعايشة مشاعر تلك الأوقات بهذه اللهفة المرِحة وخبّىء من جمال ما لديك من رأفة ٍ ورحمة لتلف َّ بها أجساد أحفادك الرقيقة أيضا ً واحرص بأن لا يفارق حياتك الأمل لينموا أطفالنا وأحفادنا بكل حب ٍّ ودفىء أمل وطمأنينة تفاؤلو يوما ً سيشتد ُّ فرعك َ في هذه الأرض فاحرص على أن يشتد ّ بكل حب. ذلك القلب ُ الذي بكى عندما علم بقدومك ورؤيتك لأول مرّة لم يكن إلا قلب ذلك الطفل الذي يقبع في جوف والدك بكل رفق, وهو كبقية الأطفال يحتاج إذا بكى بأن يربث أحد ما على قلبه ليستعيد عافيته, فإذا رأيت والدك يبكي يوما ً أمام عينيك علما ً بأنه يحاول مواراة حزنه وآلامه لكي لا تضعف بضعفه فاعلم بأن قلبه الطفولي بحاجة ٍ إلى لمسة حنان منك ومن قلبك فلا تتردد بالتربيث عليه ومواساة حزنه بتذكيره بأنه الأقوى دوما ً وإن مرّت من فوقه ِ سحابات سوداء كثيرة وعصفت في قلبه أواصر الحزن والتفت حوله محاولة ً اقتلاع أوتاده وإفقاده توازنه وثباته, فذكّره بأن له من الشموخ عزّا ً يعانق السماء كما الجبال, وأن الجبال َ مهما عصفت بها الريح وبلغت فيها ذروتها تبقى صامدة بكل ما لديها من أنفة لعدم السقوط, محاولة ً بأن لا تسمح لعوامل التعرية إلا بأخذ فتات الآلام منها, وأنها إذا ما غادرت الريح وسئمت محاولة افقادها توازنها خلقت من تعريتها لها منظرا خلّابا ً آخر, جديدا ً ومُبهجا ً كمن عصفت به الريح فعصف َ معها وحمّلها من الأثقال ما يُفقدها هي توازنها وخرج َ منها سالما ً بل مزدانا ً بالجمال الأخّاذ ِ وبالطاقة الكامنة التي لا تنضب.

الجزء الثالث في القريب العاجل إن شاء الله.

 

 

 

بقلم: رنا مروان – ( الأردن ) 


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com