خرجت أنا وهي من المقبرة و نحن نردد أدعية الترحم على كل من فارقوا الحياة ، دخلنا السيارة ونحن نحمل مشاعر الحزن على وجوهنا ، الصمت كان سيد الموقف ، فالحزن أحيانا يعقد الأحبال الصوتية ، فتختلط الكلمات ببعضها ، لتلد لغة غير مفهومة ، و غير مرتبة و كأنها شظايا إنفجار بالقلب ، ظل سؤال يجول في شوارع عقلي ، على من تجوز الرحمة بالحياة ؟ – تجوز الرحمة على الذين يبدؤون في سرد قصصهم ، و عندما يصلون منعطف الوجع ، يخفضون سرعة النطق، يقفلون أفواههم، فترى الكرة الأرضية بضخامتها، تعبر البلعوم بريق تظنه للوهلة الأولى ماء بحر مالح ، فيصدر صوتا لمرورها ، أتابع سيرها كلما صادفتهم في جلسة فضفضة ، و أتسائل أين يذهب كل هذا الوجع ؟ أنتظر أن تشق صدورهم، وأن تقطع ثيابهم ، لكن هيهات أن يفضحهم الخذلان ، يمتص القلب كل هذا البؤس ، يهشمه إلى قطع صغيرة في دقائق قليلة ، ثم يلفظه على شكل تنهيدة ساخنة ، ابتسامة لم يكتشفوا بعد لونها و لا حتى اسمها ، دمعة تخرج لشجاعة صاحبها ، هؤلاء أيضا تشملهم الرحمة . – الرحمة تجوز على من يرتجلون الحياة بملابس ملونة ، لا كفن يصنفهم في غرف الأموات ، الذين تمارس قلوبهم رقصتها الشهيرة صعودا و نزولا على جهاز في كل مرة يذكرنا بأنه كاذب ، لكن سرعان ما تنبعث من كلماتهم رائحة أشياء طال موتها فتحللت بداخلهم ، كلما حدثهم عن الأمل عن المستقبل عن الحياة ، تجدهم يعذبون بما اقترفوه من صدق و نبل و وفاء.
الرحمة ليست حكرا على المقابر ، و لا مخصصة للأموات ، فهي واجبة عند رؤية دموع الرجال، وثرثرة النساء الموجوعات، صراخ الأطفال وعجز الكبار، تجوز على من يبكون أوطانهم على الحدود، و من يموتون على تراب الوطن، الرحمة تطول العاطلين عن العمل و العاطلين عن الأمل، على الذين يبنون بروج الأحلام ليلا، و تهدم صباحا على أول تغريدة عصفور، الرحمة لم تكن للأجساد الباردة فقط، بل كانت أيضا للأرواح التي فقدناها في معترك الحياة.