لم تطرق مسامعي اليوم أيّ من الأصواتِ المشوهة، غيابها خَلّف هدوئاً، يبعثُ في النفسِ أسئلةً حتى الضجيج، أجدُني في مكانٍ لم تُسعفني حواسي لإدراكه بعد، غموض لا تُفسره الفلسفة ولا المنطق. لا أحاول البحث عن ذاتي، لأنني لو بحثت جيداً لوجدتها عالقةً تحت رُكام وطني.
سؤالٌ واحد يبقى عارياً من أيّ إجابات، كيف لي أن أجدَ الوطن ؟، أو لعلّه لم يكُن يوماً كذلك. رُبَّما جهلي بالوطن هو مادفعني لكتابةِ هذه الحروف، مثل جهلي بالحب الذي جعلني قُبلة كراهيةٍ للجميع. أذكُر أن حديثاً دار بيني وبين جدي منذُ زمن، لم أتجاوز حينها المرحلةَ الأبتدائية على ما أذكر، رُبَّما لم يكن حديثاً قط لأنني لم أنبس ببنتِ شفة، كنتُ مستمعاً فقط، جاحظَ العينين مُبتسمٌ حتى أوجعتني وجنتيّ.
رُغم شيخوختي مازالَ الرحيلُ يومضُ في داخلي مثلَ شمسِ الظهيرة، هكذا بدأ جدي يسرد ذكرياته.
لم يكن مُتاحاً لي أن أرى مِن العالم، سوى أطراف أشجار الصنوبر من سطح المنزل. وكم أكونُ بائساً حين تلمحُني أُمي من الأسفل؛ لتبدأ بالصراخ، قف…لاتتحرك…إنزل…، سيولٌ من الأوامر تتدفقُ؛ لتغُرقني و أصابُ بالدوار، و أستيقظُ حين تجتاح الصفعات وجهي. قضيتُ تلك الفترة وأنا أُمثل دورَ طفلٍ بائس في عرضٍ مسرحي ظل يُعرض حتى أصيبت خشبةُ المسرح بالقيء. مُنِعتُ من الخروج إلا برفقة أبي، الذي كان رحيماً جداً معي مُقارنة بذلك السجن المنزلي البغيض، مسجون بين عدة جُدران نُطلق عليها اسم المنزل. تختلُ الموازين فجأة و أصبحت رجلاً لم يتجاوز الرابعةَ عشرة، لذا صار لزاماً عليَّ أن أعمل وأنفق؛ لنُضيف لخُبزنا بعضً من الجُبن. لكن مازال حُلمي بالسفر ينمو مع نمو عضلاتِ جسدي، كان جُلَّ حُلمي قضاء ساعتين من ربيع مُزهر بدلاً من شتاء موحل. في كُلّ مرة كنت أحاول الخوض في موضوعِ السفر مع والدي، أجده يخوض ما أمكنه من الصفعاتِ في وجهي مبتسماً وكأنه ينشئ بعض الطُرقات الجديدة، أتركهُ ليهدأ ثم أذهب للتسكع على السطح دون صراخ هذه المرة. كان يعلم عدم قدرتي على الذهاب في أيّ طريق غير طريق المنزل، لذا يتركني؛ لأهيمُ في مدينة ساحلية دون مرافئ، حبيسُ أرضٍ لاتقلع منها الطائرات، حتى الطرق تَهاب السفر. أو هكذا ظننت.
صرت أبحثُ عن الرحيل في عيونِ أُمي الحمراء دائماً، و في ملامحِ ذلك القط الذي أخذَ دوري على السطح. يابُني كثيراً حاولت أن أهرب ولم أنجح، ولو كان بإمكانك النجاح فلن يتركك وشأنك، ليلطخَ أقدامك بذكراه، فمن يهرب من وطن ؟ !!
نفض جدي غُبار الطفولة، وانهى سرد الذكريات، ثم صمت كأنه لم يتعلم النُطق يوماً.
جدي…لم يأخذك الموت بعيداً فها أنت ترقد قريباً من سطح ذكرياتك، أنا من ابتعد. منذ ثلاثة سنوات وأنا أقيمُ عند أطراف الصنوبر، شاخت ولكن لم تمُت، ظلَّت لتحصي الراحلين. أجثو بالقرب منها الآن، يحتضنُ التراب ركبتيّ. صارت تُحدثني دوماً عن شتائك الطويل. أما الآن ياجدي..
يرحل الجميع، و تتشبث الأرض بروحي، تسقطني حتى يعانق التُراب وجهي، ويطول العناق. تنزف وجنتيّ تلك التي أوجعتني حين بدأت ياجدي، نهضت؛ لأجد النزيف يتسع حتى صار الوطن جرحاً كبيراً، وابتلعنا النزيفُ ياجدي.
منذ أيامٍ قليلة دفنت صديقي بيدي، كُنا سوياً في المكان الذي قُتل فيه، قال لي: بعيداً خلف ذلك الجدار الذي سقط، إلى اليمين قليلاً هل ترى الحطام ؟ تماماً حيثُ أنت، أنظر إلى الأسفل قليلاً، أسمعت صوت الأنين ؟ لا تخف ليست جثة، فالوطن يحتضر ياصديقي.
بقلم الكاتب: مجد الشيخة – ( سوريـا )