حوار: شيرين فريد
تم هذا اللقاء في قصر عائشة فهمي بالزمالك – القاهرة
من قرية مصرية بسيطة بلا ماء أو كهرباء، خرج طفل ريفي حافي القدمين يستحم في الترعة ويصنع أحلامه من الحكايات الشعبية، ليصبح فيما بعد واحدًا من أبرز رموز الفن التشكيلي المصري، ووكيل وزارة الثقافة للشئون الفنية سابقًا، وحائزًا على جائزة الدولة التقديرية للفنون لعام 2025 . بين سيرة الطفولة القاسية وتجربة الإبداع المليئة بالمعارض والمبادرات، ظل د. عبد الوهاب عبد المحسن مؤمنًا بأن الهوية الحقيقية تنبع من الموهبة ومن قدرة الفنان على التعبير عن بيئته ومحيطه.
في هذا الحوار، يكشف عن فلسفته الفنية، هواجسه من التبعية الثقافية، وأحلامه التي لم تتحقق بعد.


دكتور عبد الوهاب، بدايةً.. كيف تصف النهج الفني لديك، وما الذي شكّل رؤيتك؟
نشأت الحضارة المصرية من خلال الفنون. الفنون والمعتقدات جميعها وُلدت في بيئة خلاقة للفن والإبداع بيئة ريفية وسط الحقول والأراضي الزراعية . أنا فلاح وأفتخر بذلك، وقد حملت معي من الريف بذور الحكاية واللعب والفضول. كنت حريصًا منذ البداية على التواصل مع الناس عبر الحكايات، فهي التي تصنعنا. ما زلت أؤمن أن العالم مغمور بالأسرار والأساطير والقصص، وهذا الإيمان لا يزال يرافقني حتى اليوم.
كيف ترى تأثير الذكاء الاصطناعي على الثقافة والفن؟
الذكاء الاصطناعي سيطر على الإنسان بفكرة أنه القائد. المشكلة أن التقنية إذا ارتفعت فوق البعد الثقافي والإنساني فسوف تهمّش الروح. بالنسبة لي، رسالتي هي التعبير عن نفسي ومشاعري بطريقتي الخاصة، وخلق مساحة للتواصل مع الروح وتحقيق الذات ولا أعترف بتقنية خالية من روح وبصمة الإنسان .
دكتور عبد الوهاب ، مع كل هذه الإنجازات .. ما الذي شعرت أنه لم يتحقق لك بعد ؟
لم أتمرد كفاية على نفسي. هناك دائمًا قيود: الوقت، الحِمل الاجتماعي، والوصايا التي يفرضها المجتمع، كلها عوائق أمام النجاح. أطمح أن أكتب رواية عن سيرتي الذاتية، عن ذلك الطفل القادم من الريف بلا ماء أو كهرباء، وكيف تغيّرت حياته فجأة ليصبح أول حالة من الريف المصري تصل إلى القاهرة وتحقق الشهرة. لقد وُلدت في القرية وما زلت مرتبطًا بها حتى الآن.
نراك كثيرًا تتحدث عن العدالة الثقافية، كيف تترجم ذلك عمليًا؟
من خلال مبادراتي، مثل ملتقى البرلس الذي نظمته لتسع دورات متتالية، إضافة إلى 68 معرضًا شخصيًا، والمشاركة في ترينالي الجرافيك ومهرجان جرش وغيرهما. العدالة الثقافية تعني أن تصل الفنون إلى كل البيئات، الريف كما المدينة.
ما تقييمك للمشهد الثقافي والفني في مصر اليوم؟
أرى أن مصر ما زالت أكبر تراث حضاري في العالم. ومن الإيجابيات الملحوظة، النشاط الكبير الذي أحدثه الدكتور أحمد فؤاد هنو منذ توليه وزارة الثقافة، واهتمامه الواضح بالفنانين وبالمعارض. لكن في المقابل، هناك مخاطر، أبرزها التبعية الثقافية للغرب، وهي من أخطاء جيل الفنانين الجدد. نرى خطة واضحة لتهميش الهوية، وتعمدًا في الفعل الإبداعي للترويج لأفكار مستوردة.


ما رسالتك الأخيرة للفنانين الشباب؟
الهوية لا بد أن تتشكل من الموهبة، ومن مهارة التعبير عن النفس والبيئة والمحيط. يتجلى ذلك في العمارة، والإيقاع، وفي كل أشكال ومجالات الفنون والإبداع. لقد عشت 75 عامًا في قلب الريف، لكني وجدت في الفن هويتي الحقيقية، وما زلت مؤمنًا أن الموهبة الصادقة قادرة على مواجهة أي تبعية فكرية.
بين طفولةٍ ريفية قاسية وحياةٍ امتلأت بالتجارب والإنجازات، يثبت د. عبد الوهاب عبد المحسن أن الفن الحقيقي ليس مجرد موهبة، بل هو قدرة على تحويل الحكايات الصغيرة إلى هوية كبرى. رسالته للشباب واضحة: تعلّموا أن تتمردوا على قيودكم، وابحثوا عن ذاتكم في تراب الأرض وإيقاع البيئة، فهناك فقط تولد هوية لا يمكن أن تُستورد ولا أن تُستنسخ.



(
(





