– من تاجر إبل إلى زعيم ميليشيا قوية :
بدا مشهد صعود حميدتي إلى مقدمة المشهد السياسي في السودان غريباً ، إذ جاء من خارج المؤسسة العسكرية و الأحزاب السياسية التقليدية .
يُعد حميدتي أحد العناصر الأساسية التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، الذي كان قد قربه منه ودعمه وأضفى الشرعية على الميليشيات القبلية التي كان يقودها، ودمجها في المؤسسة العسكرية تحت اسم ” قوات الدعم السريع ” .
ينحدر حميدتي من قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي تقطن إقليم دارفور غربي السودان، وقد ترك الدراسة في عمر مبكر وعمل في العشرينيات من عمره في تجارة الإبل بين ليبيا و مالي وتشاد بشكل رئيسي ، فضلاً عن حماية القوافل التجارية من قطاع الطرق في مناطق سيطرة قبيلته. جنى حميدتي ثروة كبيرة من عمله هذا في التسعينات، مما ممكنه من تشكيل ميليشيا قبلية خاصة به تنافست مع ميليشيا قبلية أخرى، وعند اكتشاف الذهب في جبل عامر سيطرت ميليشياته على مناجمه.
تبدأ قصة حميدتي في عام 2003 ، عندما حشدت حكومة البشير قوات من رعاة العرب لمحاربة المتمردين الأفارقة في دارفور، وكانت نواة هذه القوات، التي عرفت لاحقاً بإسم ” الجنجويد ” مؤلفة من رعاة إبل عشيرتي المحاميد والماهرية، من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد.
وخلال الحرب الضارية في دارفور بين عامي 2003 – 2005 ، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة والأسوأ سمعة هو موسى هلال ، زعيم عشيرة المحاميد. وبرز حميدتي الذي كان يعمل إلى جانب هلال ، عندما تمكن من توسيع الميليشيا التي يقودها من الماهرية وضم إليها قبائل أخرى ، لينافس زعيمه السابق هلال وليستعين به البشير لاحقاً إثر خلاف مع الأخير. وأضفى البشير الشرعية على هذه الميليشيا بتسميتها ” قوات الدعم السريع ” وفق مرسوم رئاسي أصدره في عام 2013 ، وكان قوامها الأساسي مكوناً من 5000 عنصر ، كانوا مسلحين ونشطين قبل ذلك بوقت طويل. لم يعجب ذلك رئيس أركان الجيش، إذ أراد أن يذهب المال لتعزيز القوات النظامية، لكن البشير كان متخوفاً من وضع الكثير من السلطة في أيدي جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد أن كان قد طرده للتو بتهمة التآمر ضده . لذا أصبحت قوات الدعم السريع مسؤولة أمام البشير نفسه ، وقد أعطى البشير ل حميدتي لقب ” حمايتي ” بمعنى ” الذي يحميني ” . وشاركت قوات الدعم السريع في عدد من النزاعات الإقليمية ومن أبرزها دورها في القتال ضمن قوات التحالف بقيادة السعودية في جنوب اليمن وعلى طول ساحة تهامة- الذي يشمل مدينة الحديدة الساحلية . كما وفر حميدتي وحدات للمساعدة في حراسة الحدود السعودية مع اليمن ، وأشارت تقارير إلى أن قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي وصل إلى اكثر من 40 ألف شخص في عام 2019 .
– ثنائي الذهب والمرتزقة وأكبر ” ميزانية سياسية ” في السودان:
اشتد التنافس بين حميدتي وهلال عندما اكتشف الذهب في جبل عامر في ولاية شمال دارفور في عام 2012 . وجاء ذلك في اللحظة التي كان فيها السودان يواجه أزمة اقتصادية لأن جنوب السودان قد انفصل ، مستحوذاً على 75% من نفط البلاد ، بدا الأمر وكأنه هبة من السماء. واستولى رجال ميليشيات هلال بالقوة على المنطقة ، وقتلوا أكثر من 800 شخص من قبيلة بني حسين، وباتوا أثرياء عن طريق تعدين الذهب وبيعه.
– عند الإجتماع بالعسكريين الذين أطاحوا بالرئيس السابق المخلوع، عمر البشير، سارع سفراء الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا إلى الإتصال لا برئيس المجلس الانتقالي حينها ، عبدالفتاح البرهان، إنما نائبه الأصغر ، محمد حمدان دقلو، المعروف بإسم ” حميدتي ” ، عن قصد ، وكأنهم يعرفون طموح الجنرال الذي بدأ حياته راعياً للإبل. وأصبحت قصة هذا الجنرال غير المتعلّم والبالغ من العمر 48 عاماً ، الذي قاد ميليشيا الجنجويد التي جلبت الموت والدمار إلى دارفور ، لغزاً كبيراً ، يحلو لكثيرين تفسير ملابساته . وإن حميدتي هو أبرز ما تركته 3 عقود من حكم البشير، الذي قام على التزاوج بين الجيش والإخوان المسلمين، وهو تزاوج هجين لم يشهد له مثيل في أي من دول العالم العربي، لكن الجيش السوداني سئم حينها من الحروب التي خاضها جنوبي البلاد، وسئم كذلك من الإنقسامات التي دبت في صفوف الإسلاميين.
وعندما نشبت حرب جديدة في دارفور عام 2003 ، كان البشير مقتنعاً ، أن السبيل الوحيد للفوز هو دفع المتشددين في دارفور إلى تجنيد أبنائهم في ميليشيا مسلحة، وهو ما حدث بالفعل ، إذ خلق البشير الجنجويد وأطلق أيديهم، دون حسيب أو رقيب تحت إشراف الجنرال حميدتي، وخلال الأيام الأولى من خلع البشير، كانت المعارضة السودانية مقتنعة من إمكانياتها على التفاوض مع العسكر، وتحديداً مع حميدتي، على انتقال مدني سلس ، غير أن أهالي دارفور كانوا أكثر تشدداً ، بالنظر إلى درايتهم بالرجل ورفاقه في السلاح.
فبينما كان البرهان عقيداً في المخابرات العسكرية، وظيفته تنسيق هجمات الجيش والميليشيات ضد المدنيين في ولاية دارفور بين عامي 2003 و 2005 ، كان حميدتي بالفعل واحداً من أمراء الحرب المعروفين هناك وأصبح شيئا فشيئا وبالتدريج زعيما رئيسياً لميليشيا الجنجويد.
وأدت الحرب في دارفور في سنينها الأولى، إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين غير العرب وإلى تشريد حوالي مليوني شخص.
ولأن الحديث في السودان يحيل دوماً إلى القبائل والأعراف، فإن لا يمكن تجاهل أن حميدتي ينحدر من عشيرة عربية صغيرة هربت من جفاف تشاد وحروبها إلى السودان في ثمانينيات القرن الماضي، لكنهم حرموا عند وصولهم من مكانتهم القبلية التي تمتعوا بها هناك ، ورغم ذلك منحتهم السلطات السودانية أراضي واسعة ليقيموا عليها تتبع قبيلة الفور ، وهي أكبر مجموعة أصلية غير عربية في المنطقة، ليغيروا اسم المنطقه إلى ” أم القرى ” بدلا من اسمه الأصلي ” دوجي ” ، ولاحقا قامت السلطات بتسليح الوافدين الجدد، الذين بدؤا في تسعينيات القرن الماضي، الهجوم على جيرانهم من السكان الأصليين.
كان حميدتي حينها مراهقا ، وترك مدرسته الابتدائية في الصف الثالث لرعاية الإبل في المثلث الحدودي المصري- السوداني – الليبي، لكنه سرعان ما ترك رعاية الإبل في عام 2003 ، عندما نشب تمرد دارفور، ليتولى حينها قيادة هجوم الجنجويد على قرى الفور المجاورة.
ولتبرير الإنضمام إلى ميليشيات الجنجويد التي تدعمها الحكومة، قال حميدتي إن المتمردين هاجموا قافلة من أصدقائه تجار الجمال كانوا في طريقهم من السودان إلى ليبيا ، وأدى ذلك إلى أن تقتل ميليشيا حميدتي 75 رجلا ونهب 3000 من الإبل. وفي عام 2006 ، حصل حميدتي على معدات عسكرية جديدة قاد بها مئات الرجال في غارة عبر المنطقة التي يسيطر عليها المتمردون في شمالي دارفور، دهس الجنجويد السكان غير العرب بشاحناتهم الصغيرة واغتصبوا نساءهم بإسم السبي الديني .
لكن الحكاية لم تنته عند هذا الحد.
ففي الوقت نفسه بدأت السودان وتشاد حربا بالوكالة عبر دعم المتمردين في البلدين، إلا أن تشاد سعت إلى استقطاب حميدتي، عبر ابن عمه ، الذي اختير وزيرا للدفاع في تشاد، وفي العام 2006 ، زار حميدتي تشاد ووقع اتفاقية سرية مع حركة ” العدل والمساواة ” في دارفور، دون علم حكومة البشير في الخرطوم.
بعد ذلك بفترة وجيزة، أعلن حميدتي تمرده على نظام البشير، وبدأت حكومة السودان في مفاوضته على السعر الذي سيضمن عودته إلى النظام، وهو ما حدث بالفعل ، بعد 6 أشهر عندما أنهى تمرده وأعلن وقوفه إلى جانب النظام السوداني مرة أخرى. وقال حميدتي في العام 2009 ، لم نصبح متمردين حقا ، لقد أردنا فقط جذب انتباه الحكومة، أخبرناهم أننا هنا ، من أجل الحصول على حقوقنا: الرتب العسكرية، والمناصب السياسية، والتنمية في منطقتنا. لاحقا بدأت الانشقاقات تضرب الجنجويد، ولم يبق منهم أي موال للحكومة إلا حميدتي، فكان من الطبيعي أن يختاره نظام البشير لقيادة قوات التدخل السريع، وهي قوة شبه عسكرية معززة كان هدفها القضاء على الجنجويد، غير أنها لم تنجح في ذلك ، قبل أن تتحول إلى ميليشيا غير خاضعة للمراقبة وتشارك في عمليات النهب والقتل والاغتصاب في دارفور وفي ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
شيئا فشيئا بدأ نظام البشير في شرعنة أعمال قوات الدعم السريع فقمعت مظاهرات أيلول/ سبتمبر 2013 ، بوحشية أدت إلى مقتل لا يقل عن 200 متظاهر، فأخضعت أولا لاشراف المخابرات السودانية، قبل أن تنقل لاشراف البشير مباشرة . بمعنى اخر أصبحت قوات الدعم السريع الحامي الرئيس للبشير من وجه الانقلاب العسكري ، أو أصبح حميدتي، الذي أعطي رتبة عسكرية رسمية هو حامي البشير من وجه الجيش . بالإضافة إلى ذلك أعطي حميدتي صلاحيات واسعة في منع الهجرة من القرن الأفريقي إلى أوروبا مرورا بالسودان، إذ وكل الملف كله إليه، وقامت قوات حميدتي بعرض صور المهاجرين المعتقلين على التلفاز، للاثبات للأوروبيين أنه يمكن الإعتماد عليه .
غير أن هذا في شاشة التلفزيون فقط ، إذ أن قوات حميدتي قامت ببيع المهاجرين الذين ألقي القبض عليهم إلى المهربين السودانيين بعد تصويرهم.
لا يقتصر خطر حميدتي المتعطش للسلطة والمال والدماء على فض تظاهرات السودان، ورغم أن ابن عمه لازال يحظى بقوة في تشاد، إلا أن حميدتي يؤمن بتفوق ” العرق العربي ” على التشادي، وتراوده أحلام أن يسيطر العرب على العاصمة التشادية.
تصاعد التوتر منذ أشهر بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع اللتين شاركتا في الإطاحة بحكومة مدنية في انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 2021 . وانفجر الخلاف بسبب خطة مدعومة دولياً لبدء عملية الإنتقال لمرحلة سياسية جديدة مع الأطراف المدنية ، وكان من المقرر توقيع إتفاق نهائي في وقت سابق من إبريل/ نيسان، في الذكرى الرابعة للإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في انتفاضة شعبية. وبموجب الخطة كان يتعين على كل من الجيش و قوات الدعم السريع التخلي عن السلطة واتضح أن هناك مسألتين مثيرتين للخلاف بشكل خاص: الأولى هي الجدول الزمني لدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية، والثانية هي توقيت وضع الجيش رسمياً تحت إشراف مدني . وحين اندلع القتال في 15 إبريل/ نيسان ، تبادل الطرفان الإتهامات بإثارة العنف، واتهم الجيش قوات الدعم السريع بالتعبئة غير القانونية في الأيام السابقة وقالت قوات الدعم السريع مع زحفها إلى مواقع استراتيجية رئيسية في الخرطوم، إن الجيش حاول الإستيلاء على السلطة بالكامل في مؤامرة مع الموالين للبشير.
أنعشت الإنتفاضة الشعبية الآمال في خروج السودان وسكانه البالغ عددهم 46 مليون نسمة من غياهب عقود من الإستبداد والصراع الداخلي والعزلة الاقتصادية التي عانت منها البلاد في عهد البشير. ويمكن أن يؤدي النزاع إلى تبديد تلك الآمال بالإضافة إلى زعزعة استقرار منطقة مضطربة تخوم منطقة الساحل والبحر الأحمر والقرن الأفريقي. كما يمكن أن يلعب دوراً في المنافسة على النفوذ في المنطقة بين روسيا والولايات المتحدة وبين القوى الإقليمية التي تتودد إلى قوى مختلفة في السودان.
– دور الأطراف الدولية:
لم تتخذ القوى الغربية، ومنها الولايات المتحدة موقفاً واضحاً من المرحلة الإنتقالية نحو إجراء انتخابات ديمقراطية بعد الإطاحة بالبشير ، وعلقت هذه القوى الدعم المالي للسودان بعد الانقلاب، ثم دعمت خطة لإطلاق مرحلة انتقالية جديدة وتشكيل حكومة مدنية.
وبذلت السعودية والإمارات جهوداً لتشكيل مسار الأحداث في السودان إذ تريان أن الإنتقال للديمقراطية بعيداً عن حكم البشير سيؤدي للقضاء على نفوذ الإسلاميين وتعزيز الإستقرار في المنطقة .
وواصلت الدول الخليجية ضخ استثمارات في قطاعات مثل الزراعة إلى جانب قطاع الموانيء على ساحل البحر الأحمر. وتسعى روسيا لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر بينما وقعت العديد من الشركات الإماراتية على اتفاقيات للإستثمار، من بينها توقيع مجموعة من المستثمرين الإماراتيين صفقة أولية لبناء وتشغيل ميناء . واتفقت شركة طيران أخرى مقرها الإمارات مع شريك سوداني لإنشاء شركة طيران جديدة منخفضة التكلفة يكون مقرها في الخرطوم.
– السيناريوهات المتوقعة:
دعت الأطراف الدولية إلى وقف إطلاق النار والعودة إلى طاولة الحوار لكن لا توجد مؤشرات تذكر على التوصل لتسوية من جانب القوى المتحاربة. ووصف الجيش السوداني قوات الدعم السريع بأنها متمردة وطالب بحلها، بينما وصف حميدتي البرهان بالمجرم وحمله مسؤولية الدمار الذي تشهده البلاد.
ورغم امتلاك الجيش السوداني لمواد متقدمة، منها القوات الجوية، فإن قوات الدعم السريع التي يقدر عددها بنحو 100 ألف انتشروا في جميع أنحاء الخرطوم والمدن المجاورة لها وكذلك في مناطق أخرى ، مما يهدد بإطالة أمد الصراع في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية وتزايد الإحتياجات الإنسانية في الوقت الحالي. ويمكن لقوات الدعم السريع أيضا الإستفادة من الدعم والعلاقات القبلية في منطقة دارفور الغربية، حيث خرجت هذه القوات من رحم الميليشيات التي قاتلت إلى جانب القوات الحكومية للقضاء على المتمردين في حرب دامية تصاعدت بعد عام 2003 .
ختاماً ….
المشهد السوداني مخيف للغاية، والمشهد الإقليمي معقّد جدا ، التجاذب الدولي في القارة الأفريقية السمراء والسودان يصب الزيت على نار المعارك، والحديث عن مجموعة مرتزقة فاغنر وأخواتها لم يعد مجرد همس خلف ستائر مسدلة، انفجار السودان يطرح موضوع مياه نهر النيل وأمن شريان تجاري حيوي هو البحر الأحمر، يطرح أيضا انتقال النار السودانية إلى الجوار، وإمكان عثور ” القاعدة ” و ” داعش ” على مواقع للتحصن داخل الخراب السوداني، كما يطرح حصول أمواج جديدة من اللاجئين والنازحين.
للمنطقة والعالم مصلحة فعلية في إنقاذ السودان من الانتحار الكامل بشعبه ومنطقته، لابد من دولة وشرعية لمنع تطاير شرارات الانهيار السوداني في الداخل والخارج، المؤسف أن الجنرالين يتصرفان كأن السودان إنزلق إلى مرحلة فوات الأوان، قال البرهان إنه لن يخرج الا في نعش ، حميدتي يفكر بالأسلوب نفسه ، يتصارع حميدتي والبرهان على فوهة البركان.
ما أصعب بلداننا، عثرت على الإستقلال ولم تعثر على دولة تحميه من انهيارات الداخل و تدخلات الخارج، تاريخ اليمن الحديث معقّد كتضاريسه، وتاريخ العراق عاصف و دموي كتاريخه، وتاريخ السودان الحديث ضائع بين عسكرييه ومدنييه.
بقلم: فاتن الحوسني
باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية