أدت الجغرافيا منذ آلاف السنين دوراً ريادياً في تحديد نمط سلوك الوحدات السياسية، وتطورات القادة والمجتمعات للدور الذي ينبغي أن تضطلع به دولتهم ، والمكانة التي ينبغي أن يأخذها مجتمعهم في علاقته ببقية الوحدات السياسية والمجتمعات، سواء في زمن الحرب أم في أوقات السلام .
ولعلّ شخصية البروفيسور ” ألكسندر دوغين ” تعدّ أكثر الشخصيات الجيوبوليتيكية الروسية المعاصرة شهرة ، وهو الذي وصفه أوساط عالمية كثيرة بأنه ( العقل الجيوبوليتيكي الأول ) الذي يقف وراء التوجهات الاستراتيجية الكبرى لروسيا المعاصرة ، كما يُعبّر عنها الرئيس فلاديمير بوتين في سلوكات بلده الخارجية منذ وصوله إلى الكرملين عام 1999 .
والجيوبوليتيك : ” علم سياسية الأرض ” بمعناه البسيط هو : ” دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة ” ، وهو يعني البحث عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة لتنمو حتى ولو كان وراء الحدود.
بالحديث عن روسيا، فإن انهيار الإتحاد السوفييتي لم يعن فقط صدمة للهوية الثقافية، السياسية والإقتصادية الروسية والنجاح الأيديولوجي – السياسي الغربي ( الأوروبي- الأمريكي ) في ردع واحتواء النفوذ السوفييتي، ولكن التحولات الإقليمية السياسية والايدولوجية والعسكرية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في منطقة الجوار الروسي بما أصبح يُعرف ب ” أوراسيا ” المنطقة الممتدة من شرق الصين إلى حدود أوروبا والشرق الأوسط، أحدثت فجوة أمنية كبيرة ساهمت في رسم معالمها مجموعة من الصراعات الجديدة.
روسيا محاطة بإجمالي 13 بحراً ، من بينها 12 بحراً من ثلاث محيطات، ومع ذلك فهي دولة شبه حبيسة، ليس لها منافذ بحرية مفتوحة، فعلى الرغم من أن المحيط القطبي الشمالي والمحيط الهاديء يشكلان الحدود الشمالية والشمالية الشرقية لروسيا، إلا أن مياههما تتجمد طوال العام لقربهما من المدار القطبي، كما أن مدينة فلاديفوستك ، التي تعد الميناء الأهم لروسيا الاتحاديه في الشرق ، تقع في بحر اليابان( بحر الشرق ) ، من جهة الغرب تطل مدينتا سانت بطرسبرغ وكاليننغراد على بحر البلطيق الذي يفصله عن بحر الشمال مضيق أوريسند ، ويمثل هذا المسار عائقا لروسيا نظرا لأن معظم الدول التي تطل عليه أعضاء في حلف شمال الأطلسي.
ويبقى المنفذ إلى البحر الأسود الذي يفصله عن البحر المتوسط مضيق البوسفور ، لذلك نجد أن أوروبا تشارك روسيا معظم المنافذ البحرية المتاحة أمامها، خاصة المنافذ الغربية، مما يعطي القوى الغربية الأفضلية في تطويق الدولة الروسية، ومن ثم فمن البديهي إدراك مدى تمسك روسيا بأي منطقة تسمح لها بالوصول إلى المياه الدافئة.
تواجه روسيا معضلة أخرى فيما يخص الجغرافيا وهي صعوبة المناخ ، مما أدى إلى خلق مشكلة ديمغرافية، حيث يتكتل 75% من السكان الروس ، البالغ عددهم إجمالي حوالي 146 مليون نسمة وفقا لاحصاءات عام 2019 ، على الحدود الغربية بين روسيا وأوروبا ” روسيا الأوروبية ” التي تتجاوز مساحتها 25% من إجمالي مساحة روسيا، وحدودها الجنوبية في المنطقة بين البحر الأسود وبحر قزوين ، وبالتالي تركزت كل الأنشطة الزراعية والصناعية والحيوية بالقرب من منطقة التهديد الأولى بالنسبة لروسيا.
هذه العوامل الجغرافية فرضت على روسيا مواقف لضمان بقاء الدولة ، لذلك كانت الاستراتيجية الجوهرية هي اعتبار الدول المحيطة- دول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى- مجالا جيوبوليتيكيا لا يمكن التفريط فيه ، واستغلالها كإطار دفاعي لها على مر عصورها المختلفة.
كما تعد روسيا أغنى دول العالم من حيث احتياطي الموارد المعدنية العالمي ، فلديها 10% من الإحتياط العالمي من النفط و 25% من الإحتياط العالمي للغاز الطبيعي، وإمدادات وفيرة من المعادن الثمينة، ساهمت هذه الوفرة في المعادن بتمتع روسيا بالاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة وجعلها من أكبر مصدري الطاقة على مستوى العالم ، حيث كان النفط والغاز العاملين الرئيسيين لمصدر العملة الصعبة للإتحاد السوفييتي وما زال لروسيا الاتحاديه.
بعد الحرب العالمية الثانية، كان الإتحاد السوفييتي في اوج عظمته جيوبوليتيكيا، اتسع المجال الجيوبوليتيكي السوفييتي ليشمل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا حتى امتد حلف وارسو السابق إلى حدود ألمانيا الغربية ، وأصبح الإتحاد السوفييتي يملك الموقع الجغرافي المثالي الذي كان يمكن من خلاله تشكيل مناطق عازلة ضد الغرب .
ومع تفكك الإتحاد السوفييتي والانقسام الجغرافي السياسي الجديد لدول آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية ، خرجت دول البلطيق ودول شرق أوروبا، التي كانت تشكل قلب امتداد روسيا الاستراتيجي، من الفلك الروسي. وكانت النتيجة احتواء حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي لدول أعضاء حلف وارسو .
ومع صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئاسة عام 2000 ، بدأ الإهتمام الروسي المتزايد بإعطاء الأولوية للجيوبوليتيك ضمن محددات السياسية الخارجية بهدف حماية وتحقيق المصالح الحيوية.
تعتبر بيلاروسيا وأوكرانيا الدولتين الوحيدتين على الحدود الغربية الشمالية لروسيا اللتين ليستا عضوين في حلف الناتو، وتشكلان مساحة عازلة بين روسيا والغرب ، وبينما تعد بيلاروسيا دولة حليفة لروسيا في الأساس، تزداد أهمية أوكرانيا كونها تجمع بين كل المحددات الجيوبوليتيكية الروسية، فلا تستضيف قواعد عسكرية أمريكية، كما يسكنها نسبة معقولة من الروس ، وتطل على البحر الأسود، الذي يحتضن الميناء الأهم لروسيا، وتتمركز شبكة الغاز الاكبر لروسيا على الحدود الروسية- الأوكرانية، وبالتالي أي تغيير في هذه المحددات يهدد روسيا أمنياً .
كتب الجيوبوليتيكي الأمريكي الشهير نيكولاس سبيكمان في أعقاب الحرب العالمية الثانية سنة 1942 يقول : ” الجغرافيا لا تُجادل ، فهي ما عليه ببساطة….. الجغرافيا هي العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول ، لأنها أكثر العوامل ديمومة، يأتي الوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها ” .
ختاماً …..
صحيح أن الإنسان هو الذي يُبادر ويستخدم الجغرافيا أو يُعطّلها، لكن الجغرافيا هي التي تحدد مصيره، وهذا ما لخصه ( ماكيندر ) في جملة واحدة : ” الإنسان هو من يبادر وليس الطبيعة، لكن الطبيعة هي التي تتحكم بشكل أكبر ” .
بقلم: فاتن الحوسني