يُولد الإنسان طيبًا مفعما بالحيوية والتطلع للنماء كالصفحة البيضاء، ومن ثم تفسده الحياة بالإختلاط والقناعات والتجارب الحياتية وما يكتسبه من علاقته بالوالدين ومحيطه. فتتكون الأنا التي هي لا شئ، ولكنها تصبح كل شئ يطبع أثره علي عقولنا ونفوسنا ويقود دوافعنا، وننشئ علي آلية إعتقاد أن ما يميزنا عن الحيوان هو العقل، إلا أن التاريخ ملئ بنماذج فاسدة سخرت ذكائها للإجرام وتدمير البشرية حتي لحظتنا الحالية، وكل ما كبر الإنسان يبتعد عن فطرته ، وذلك يشير إلي أن العقل غير كافي لتوجيهنا، حيث أن ما يتغذي به العقل يختلف من فرد لأخر كالأرض الخصبة .. فإن ما نزرعه في عقولنا نحصده أفعالا و الإنسان شفرة ولغز رباني لا يمكن أن نحصرها في بعض الكلمات.
نجد مُعظمنا متخبط دائمًا في حالة الصدمة والهلع من مجريات الأمور المعاكسة لطموحاته، ولأحكامه علي نفسه من خلال الأخرين ، لذلك فإن إنتقاء ما يغذي عقولنا من مرئي ومسموع أو مقروء يؤثر على خلايا الدماغ وشكلها مدي الحياة فنعيش تجارب لم نعيشها علي أرض الواقع لمجرد إنها قناعات ربما تكون حقيقية نافعة أو منها ما يحتاج إلي النظر والتعديل السلوكي والمعرفي.
وبمعرفتنا أن الوعي هو مركز الإدراك وفي مركزه تقبع الأنا “النفس الزائفة” والوعاء الظاهري الذي يتغير جراء البيئة المحيطة والبرمجة المكتسبة من الخبرات الحياتيه، وتتميز بالنظرة الشخصية عن الذات وتغيير الأراء وهي همزة الوصل بين الوعي واللاوعي، وتكون مثل الصندوق في الطفولة تبدأ ضئيلة وغير واضحة الملامح ثم تتضخم مع الوقت لتشكل الإنسان بكل هواجسه ومخاوفه وألالامه التي تعرقله عن المرور قدما في الحياة ،ليظل يبحث عن لغز السعادة الحقيقي وهو يرتدي قناعا معنويا لترك إنطباعا جيدا لدي الأخرين أو صورة مثالية عن نفسه بكبت كل المشاعر الحقيقية والتي إذا تصرفنا وفقا لها سنبدو مجانين أمام الأخرين !
وتضحية تلو الأخري ليفقد الإنسان كينونته الحقيقية.
ماذا لو تعرفنا علي جوهرنا وذاتنا الحقيقية واستمعنا لنداء أرواحنا لنصل بها لأعلي مراتب الإستنارة والوعي؟
في مقابل تعريفنا “للنفس الزائفة” في البداية سنجد الإجابة تتجلي واضحة عندما ندرك التعريف البسيط (للروح) بكونها هي المحرك الحقيقي للجسد بنفخة إلهية من الله سبحانه وتعالي وهي ذاتنا الحقيقية التي ستنعم في الجنة أو ستعذب في النار .. فما علينا إلا رفع مستوي الوعي الروحاني بتكسير الأصنام التي تقف بيننا وبين أرواحنا وأكثر تلك الأصنام خطرًا هو الخوف من السيطرة علي الأمور.
مراحل السمو الروحي
للأرتقاء بالروح لأعلي المراتب يمر الإنسان بسبعة مراحل أقلها النفس الأمارة بالسؤ وهي معاناة النفس بشدة للعمل علي خدمة رغباتها في الحياة وإرضاء الأخرين، ثم النفس اللوامة والنفس المُلهمة ثم النفس المطمئنة والنفس الراضية ثم المرضِيةً وأعلاها هي النفس (الراضية المرضِيةً) بعد الإجتهاد في الإرتقاء بسمو الروح ويتجلي في محاسبة النفس دون جلدها وتجنب الخبث والحقد والحسد والبغض، والتقرب إلي الله تعالي بروح نقية وأن لا نقع في فخ المعاملة بالمثل الذي يأخذنا إلي منحدرات مدمرة لصحتنا النفسية والعقلية وسلامنا الداخلي.
وفي دراسات عديدة ( neuropsychology) من ضمنها دراسة بجامعة “بيتسبرج” بدأت منذ بداية السبعينات حتي عام 2010 وجد أن هناك علاقة طردية بين الروحانية والشفاء الذاتي للجسد وزيادة مناعة الجسد للأمراض وبالتالي إنخفاض الأمراض النفسية مثل الإكتئاب والإنتحار وخفض الإصابة بالأمراض السرطانية و إنخفاض معدل الوفيات واثبتت تلك الدراسة أن الإيمان بالله تعالي والتقرب منه حاجة فطرية لها ألياتها ومراكزها في دماغ الإنسان بفضل جهاز تصوير الرنين المغناطيسي حيث وضح الأماكن التي تخمل وتموت وتلك التي تضئ عندما يعيش الإنسان في الحالة الروحية والخشوع والسجود الروحي وهذه الأليات جميعنا يملكها..
ومن خلال تجربتي الشخصية وجدت أن بالتأمل والتعبد والتفكر ينتقل الإنسان إلي ترددات طاقية أعلي تخرجه من حالة الخوف والتوتر والقلق إلي السكينة والطمأنينة والحكمة في أعماقه ،ومنها يستطيع الإنسان رؤية ذاته الحقيقية بنظرة مختلفة متصالحا معها مهما تعرض للصدمات في الحياة، ويصبح لديه القدرة علي إدارة مشاعره تجاه الأحداث وضبط النفس بردود الأفعال الإيجابية، فإن معظم الدراسات أجمعت علي أن 70% من زيارة المرضي للأطباء سببها جهل إدارة المشاعر بالتوتر الذي يعقبه إنخفاض مقاومة جميع الخلايا المناعية للأمراض وتدمير الجهاز المناعي علي المدي الطويل مثل مشاعر الغيرة والحسد والحقد والرغبة في الإنتقام …الخ )..
والتي ماهي هي إلا مشاعر تأكل خلايا الإنسان من الداخل وتفرز هرمون الأدرينالين الذي يستنزف الجسم وطاقته وتؤدي إلي الأمراض والموت المبكر، مع العلم أننا بإستطاعتنا إعادة توجيهها لتصبح غبطة تحفزنا علي التنافس في الخير، فنحن من نجلب لأنفسنا ما يعرف (بالأمراض السيكوسوماتية) المنتشرة علي نطاق واسع ،في حين أن الله سبحانه وتعالي وضع الدواء بين أيدينا وأودعنا القدرة علي إدارة أفكارنا السلبية المكتسبة عن أنفسنا مثل (لا أحد يحبني أو أحتاج لأن أحارب لأخذ حقي مثلا ) مما ينعكس علي مشاعرنا وعواطفنا في شكل موجات كهرومغناطسية مدمرة تؤثر علي ذبذبات الجسم بأكمله عن طريق الوعي والإدراك وتتحول لأفعال تؤثر علي حياتنا بأكملها لنجني ثمار ذلك في صحتنا النفسية وعافيتنا.
وأعلي مراتب النفس هي “مرتبة الروح” أو المصدر يقول أبو الحسن الشاذلي أن تلك المرتبة تتمثل في الوصول إلي التوحد بين باطن النفس وظاهرها بأن يكون الظاهر للناس هو إنعكاس لما هو بداخلك أي التوافق بين الظاهر والباطن مع كسر حواجز الخوف فمن عرف نفسه عرف ربه.
ويمكنك التساؤل!
هل انت الذي خلقت روحك ؟ وهل تلك الروح لها حجم أو شكل أو لون؟هل يمكنك أن تلمسها؟ هل يمكنك تركها والذهاب إلي العمل؟هل يمكن أن تكون شريرة؟ هل تكتئب روحك وتمرض؟
والإجابة علي كل تلك الأسئلة بالطبع لا. لإنها نفخة الرحمن في أجسادنا بالفطرة .. وهي البذرة الإلهية التي وضعها الله بداخلنا لنعرفه بها ونصالح بها أنفسنا ، على النقيض للنفس الزائفة التي تستسلم لكل المدخلات المؤثرة عليها.
فليكن إستجابتنا لنداء أرواحنا هو هدفنا لنولد من جديد فنحن لا نحتاج للشعور بالفرح بقدر ما نحتاج أن نشعر بالسكينة والنور في أرواحنا.
بقلم: الإعلامية والباحثة
رشا أبو العز