الاحساء – زهير بن جمعه الغزال
توافد حجاج بيت الله الحرام منذ وقتٍ مبكر من صباح اليوم الخميس إلى مسجد نمرة في مشعر عرفات لأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً؛ اقتداء بسنة النبي المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم- والاستماع إلى خطبة عرفة.
وأمّ الحجيج بمسجد نمرة معالي عضو هيئة كبار العلماء المستشار بالديوان الملكي الشيخ عبدالله بن سليمان المنيع في صلاتي الظهر والعصر ثم ألقى خطبة عرفة حيث استهلها بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله المختار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأخيار الذين ضربوا أروع الأمثلة في بذل الخير, ونشر الحق فكانوا من أفضل الأبرار.
وأوصى معالي الشيخ المنيع المسلمين وحجاج بيت الله الحرام بتقوى الله التي أوصى بها الأولين والآخرين ، كما قال سبحانه ﴿وَلَقَد وَصَّينَا الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ مِن قَبلِكُم وَإِيّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكفُروا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَميدًا﴾ وبتقوى الله تنزل الخيرات وتبتعد المصائب المكروهات قال تعالى ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا﴾ وتقوى الله تتمثل في الإقدام على الطاعات والإحجام عن المعاصي والسيئات.
وأعظم خصال التقوى توحيد الله وإفراده بالعبادة بحيث لا يصلى إلا لله, ولا يدعى إلا الله, ولا يعبد أحد سواه لا بذبحٍ ولا نذر ولا بغيرها قال تعالى ﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اعبُدوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم وَالَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، وقال تعالى ﴿وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا﴾ وهذا هو مقتضى شهادة التوحيد لا إله إلا الله، وقرينتها شهادة أن محمداً رسول الله كما قال تعالى ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِن رِجالِكُم وَلكِن رَسولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيّينَ﴾ بحيث يُطاع أمره، ويُصدّقُ خبره، ولا يعبد الله إلا بما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله قد أكمل للنبي عليه الصلاة والسلام الدين، فلا يحتاج إلى أن يزاد فيه بشيء من البدع، وقد أنزل الله على نبيّه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموطن في يوم عرفه ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا﴾.
وقد أوضح لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام بُنيَ على خمس: شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وإقام الصلوات الخمس في اليوم والليلة، وإيتاء الزكاة بإخراج جزءٍ من المال لمستحقيه، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً.
كما ذكر أركان الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال تعالى (﴿كَما أَرسَلنا فيكُم رَسولًا مِنكُم يَتلو عَلَيكُم آياتِنا وَيُزَكّيكُم وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَيُعَلِّمُكُم ما لَم تَكونوا تَعلَمونَ﴾.
فبعد أن امتن تعالى ببعثة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أوصى بالذكر والشكر والصبر، وإن من صفات أهل التقوى الصبر على الأقدار المؤلمة كما قال تعالى ﴿وَالصّابِرينَ فِي البَأساءِ وَالضَّرّاءِ وَحينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ﴾.
وأضاف معالي الشيخ المنيع: إن الحياة الدنيا لا تسلم من المصائب ولذا أمركم الله بالصبر حيث قال تعالى ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ﴾، ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ﴾،﴿أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾.
إن الشدائد مهما عظمت فإنها لا تدوم، ورحمة الله أوسع، وفرجه أقرب، وقد وعد الله بالفرج والتيسير قال تعالى ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا﴾،﴿إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا﴾، وهذه المصائب تفتح أبواب طاعة الله تعالى، باحتساب الأجر في دفعها قبل وقوعها، وفي فعل الأسباب المؤدية لرفعها بعد حصولها، وقد جاءت التوجيهات الإلهية للتعامل مع المصائب والمشكلات المالية والاقتصادية بما يحقق رغد العيش للخلق، فمن ذلك أن الشريعة الإسلامية رغبت في الاكتساب والإنتاج، ومزاولة الأعمال، وحثت على التجارة، وجعلت الأصل في البيوع الحل والجواز؛ وحرمت الربا والغش والخداع في المعاملات.
وأمرت الشريعة الإسلامية باحترام الأموال العامة والخاصة، وأمرت بالوفاء بالعهود، والالتزام بشروطها، كما نظمت التعاون والتبادل التجاري، وأمرت بسداد الديون وتوثيق الحقوق، وحذرت من الإسراف، وفرضت دفع الزكاة للفقراء والمساكين، ورغبّت في الصدقات أيام الشدة والبلاء.
ولحماية المجتمع من المشاكل الاجتماعية والنفسية أمرت الشريعة ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن تربية الأبناء، و رغبت في الترابط والتآلف والتكافل الاجتماعي، وأعطت لكل واحدٍ من الزوجين حقوقاً على الآخر، وكفلت حقوق الإنسان رجلاً وامرأةً وطفلاً، كبيراً وصغيراً، سليماً ومعاقاً، بل جاءت بمراعاة نفسيات الآخرين، والوقوف معهم في أيام محنتهم ومصائبهم، كما أمرت بحسنِ الخلق وطيب المنطق، والترغيب في نشر المحبة والوئام.
وقال أسامة بن شريك: شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع وهو يخطب يقول: (أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك).
وفي الموضوعات السياسية والأمنية جاءت الشريعة بإجراءات توصل إلى سلامة البلاد والعباد واستقرارهم، وتمكنهم من أداء مهامهم وأعمالهم، وجاءت الشريعة بحفظ الحقوق وصيانة الدماء والأموال، وحرمت الاعتداء والإيذاء للآخرين، كما منعت من تأجيج الصراعات، وتغذية الإرهاب، ونهت عن الإفساد في الأرض، وأمرت بطاعة ولاة الأمور في غير معصية، وأمرت بالعدل، وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحج: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ثم أمرهم بالسمع والطاعة فقال: (أيها الناس إن الله أدى إلى كل ذي حقّ حقه، وقال اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا إذا أمرتم، تدخلوا جنّة ربكم).
وفي الجانب الطبي فقد جاءت الشريعة بتوجيهات تؤدي إلى حفظ الصحة وسلامة الأبدان، وأمرت بالطهارة والنظافة، والمحافظة على البيئة نقية طاهرة، وأباحت طيب الطعام، ونهت عن المضر منه، وشرعت طرائق لحماية المجتمعات من انتشار الأمراض والأوبئة، قال -صلى الله عليه وسلم-(إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها)، وانطلاقا من هذا الحديث النبوي الكريم الذي يمنع من التنقل في أوقات الأوبئة والأمراض سريعة الانتقال شديدة العدوى، جاء القرار الحكيم من حكومة المملكة العربية السعودية بإقامة شعيرة حج هذا العام بأعداد محدودة، حرصاً على إقامة الشعيرة بشكل صحي ولضمان سلامة الإنسان، وتحقيقاً لمقاصد الشريعة في حفظ النفس البشرية بإذن الله.
لقد سعت الدولة باتخاذ الإجراءات المؤدية لحماية مكة المكرمة والمدينة المنورة والحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة من تفشي هذا الوباء، فجزى الله خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ورجال دولتهم خير الجزاء على ما يبذلونه في خدمة الحرمين الشريفين وحمايتهما والبذل لهما، نسأل الله أن يبارك في جهودهم ويعظم ثوابهم.
واختتم معاليه خطبته بقوله: أيها المؤمنون: إن من أعظم ما تستجلب به الخيرات والنعم، وتدرأ به المصائب والنقم، دعاء الله تعالى، فقد وعد الداعين بإجابة دعواتهم كما قال تعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم﴾.