|  آخر تحديث أغسطس 17, 2019 , 16:12 م

أنهك هدوء الفِكر وناشد الحضارة


أنهك هدوء الفِكر وناشد الحضارة



 

أي عصر هذا الذي يعيدنا إلى إشراقة أول صباحٍ أضحى من الماضي، وشكّل منا مجسمات خالية لا يتم ملاحظتها واستذكارها في أي عصرٍ كان، وأي عقل واعٍ باستطاعته أن يشرح ويترجم ما يدور في ذهن القلب!، ولا أظن أن هناك أسوأ من أن يكون القلب بكامل قواه العقلية، قادراً على الإدراك، وحين يستنجد بالعقل الواعِ ليرشده للصواب العقلاني، ويح ذلك الألم الذي يصيب القلب حين تتوحد آراؤه وتوجهاته مع العقل، إلا أن هذا الألم كفيل باستخراج قوة عظيمة قد لا يدركها القلب إلا بعد حين.

 

 

قريةً خالية من العقول، في حياة تتخبط فيها الأنفس، في واقع لا يحمل من المنطق إلا مسمّاه، جدالٌ من العدم، وثورة من الضعف العقلي، وقلوب لا تعي إلا التّوهان والظلام، وأيادٍ تحاول جاهدة أن تنطق!.

في تلك القرية المُنهَكَة… قبائلٌ، أحزاب، رجال ونساء، ولكن الأطفال قد دفنوا خوف أهليهم عليهم من خطر الاندثار والضمور، فحين يعم المساء وتصبح الأرض قاحلة لا ماء ولا غذاء، يبدأ صراع لا يوصف، لا هو بين القبائل ولا الرجال والأحزاب ولا حتى النساء ضعفاء الذاكرة، هو جهاد الذات من أجل استمرارية البقاء وسط الدمار والخمول والكفاح العقيم، فجر هذه القرية يكاد لا يرى ولا يُحس، ولعل أحداً إن مر بهذه القرية ذات مساء لن يجد معلماً يدل على أنها عامرة بالقلوب المنكسرة والذاكرة الخرساء، فجرها حزين وفارغ وبلا معلم وكأن عقول العالمين بها قد أثرت عليها ونقلت لها عدوى انعدام الذاكرة، فإذا بالمدينة لا تدري أفجر هذا أم أن المساء قد طال!.

مشردون هم، يحملون على كاهلهم هم الترحال، خوف السفر ورهبة الواقع، فالذين يتعايشون بل يتوحدون في حياة خالية من الفكر والتفكر والوصف والمعرفة، ويملؤون حقائبهم بالعدم والعرف والعادة، يصعب عليهم السفر إلى مدن المنطق والحضارة، فماذا بأناس لم يعرفوا معنى التذكر، معنى الألفة والرغبة والسعادة بأسباب، تتعدد الأسباب والوجع واحد!.

حين حاول أحد رجال القرية أن يهاجر بحثاً عن الحياة، لم يعلم بأن ذلك كان سبباً في الموت المحتم الذي جلبه لأولئك الأغراب المتجانسين، الفرحين ببساطتهم، الخائفين من وجعهم، المؤمنين بأن الذاكرة لا تُؤتمن، وأن الوعي لا يصاحَب وأن المنطق كفيل بتدمير القرية التي سهر أهلها قرونا من أجل بقائها، وإنني أشعر أنهم كانوا يتفقدون بعضهم البعض كل مساء، لا لأجل الاطمئنان على حياة أحدهم أو موته، بل خوفاً من أن يسلك أحدهم طريقاً يؤدي إلى إبادتهم جميعاً، ما علموا أن أحد الرجال خان الذاكرة، لكن آمنوا بأن خيانة الذاكرة كُفر!.

 

 

حين تلقى الرجل من العلم أعلاه، ومن الفكر ومن الحكمة ما يعينه على المساهمة في نماء القرية وازدهارها فكرياً وحياتياً، وعلاج ذاكرة قاطنيها، قرر أن يرجع للقرية حاملاً معه عناء سنوات من الكفاح والعلم، وجاء ليبشر عشيرته بما حصده في السنوات القليلة الماضية، وكواقع الحال وجد القرية كما هي تائهون أهلها، بسيطون هادئون، وفي ليلة من الليالي الساهرة لحظة إشعال الحطب، واستقبال الرجل بأشهى المأكولات في مائدة البساطة والرضا، أعلن الرجل للعامة بأن الفرج جاء وأن العلم والمعرفة سوف تعم القرية، وأن الذاكرة لن تظل بعد اليوم خالية، وأن الحضارة آتية!، بل وأن القرية سوف تصبح مدينة مكتملة مزدهرة!، فإذا به يواجه ردوداً لم تكن بالحسبان، رفضٌ، واستنكار وغبطة، فهم ما حلموا بالحضارة والتمدن بقدر ما رغبوا بالاستقرار والهدوء، جدال حاد أثار المدينة، وبما يحمله الرجل من فكر ومعرفة، عزم على حل الخلاف بأنه سوف يفعل ما تشاء القبائل والأحزاب بفارق قليل في الذاكرة والمنطق السائد.

 

 

بقليل من الاختصار للزمن والأحداث، قد ظن الرجل أنه بما أوتي من علم ومعرفة قادر على تغيير فكر مجتمع، وحين واجه الفشل لبضع سنوات قرر أن يهاجر مرة أخرى، القرية ظلت كما هي تجمعها وحدة فقد الذاكرة والهدوء، أما سير الأحداث إن تغير ولو قليلاً، لكان الرجل قد علم أنه ما أوتي من العلم إلا القليل وينقصه الكثير لتحقيق هدف التغيير الكائن، ولو القرية أعطت نفسها فرصة وآمنت بإمكانية التغيير لكانت مدينة بهدوئها وبساطتها.

لابد من أن نعي بأننا لا نملك حق إحداث التغيير في الآخرين وفقاً لتوجهاتنا وقناعاتنا، وأن الرغبة الحقيقة تكتمل بالاستمرار، وأن من حق الآخرين علينا احترام أفكارهم، وإن قررنا بأن نحدث فارقاً في الفكر فلابد من أن نقنع أنفسنا قبل أن نقف على عاتق الآخر ونجثو عليه بعدم إنسانية، فلا يحق أن نعلن الحرب على قرية مسالمة.

بقلم: فريال عبدالله – (الإمارات)


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com