بقلم الكاتب والباحث العلمي: زكريا حمودان – فرنسا
لنتفق ونختلف في ما بيننا حول لبنانُنا وكيف نريده غداً، لنكتب للتاريخ أننا كنّا مسؤولين بالرُغم من إختلاف وجهة نظرنا، ولكننا أقله نُدَوِنُ مذكرات وطنٍ قد تَسمَحُ لنا الأيام أن ننطلق به نحو الأُفقِ العالي البعيد. قد تحرمنا المشاريع الإقليمية والتخبطات السياسية والولاءات الخارجية هذا الشرف العظيم، فلبنان اليوم تُسَيطِر عليه الأحزاب التي تُعتَبر نعمة في العالم المتقَدِم وفي لبنان باتت نقمة. أما اليوم وفي الوقت الذي لم يعُد لبنان أولوية بين دُوَل المنطقة، عادت المشاريع والطروحات المتعددة للأفرقاء السياسيين إلى التداول كالحديث عن مؤتمرٍ تأسيسي، أو ما خرج مطالبًا به الجنرال عون بشكلٍ خجول وهنا نعني الفدرالية التي ساواها الجنرال باللامركزية مُدَّعيًا بأن لا فرق بينهما، ولكن حقيقة الأمور مختلفة جدًا والفرق واضح عندما يأتي الحديث عن كلٍ من الطرحين. فما هي الفدرالية؟ وكيف ستكون صورة لبنان في حال تم اللامركزية الإدارية الموسعة أو الفدرالية؟ الفدرالية؟ الفيدرالية هي إتحاد إختياري بين ولايات أو دول أو أقاليم، تختلف قوميًا أو عرقيًا أو ديانة أو لغة أو ثقافة، حتى تتحول إلى شخصية قانونية واحدة أو نظامٍ سياسي واحد، مع إحتفاظ أجزاء هذه الشخصية المتحدة بخصوصيتها وهويتها، ويوجد تفويض للكيان المركزي للإتحاد بالبعض من الصلاحيات المشتركة كسياسة الدولة الخارجية والدفاع، مع الإحتفاظ ببعض الصلاحيات الحصرية لهذه الأقاليم أو الولايات. بما يعني توافر الإستقلال الذاتي للولايات أو الأقاليم المكونة للإتحاد، ولهذا أهم ما تتميز به الدول الفيدرالية أو الاتحادات الفيدرالية هو الاستقلال الذاتي لكل ولاية أو دولة مشتركة في الاتحاد. وبذلك تتمتع كل ولاية بدستورٍ أو قانونٍ أساسي يُسمى بالدستور الإتحادي، بحكومة تُسمى حكومة الإقليم وتتألف من رئيس الإقليم ورئيس الحكومة والوزراء والبرلمان المُصَغَّر الذي يشرف على أداء دور الحكومة الإقليمية، كما يتمتع الإقليم بثروته البشرية والإقتصادية والإنتاجية الذاتية. نظرة حولَ ما قد يُحققه كُلٌ من الطَرحَين في لبنان يأتي تطبيق اللامركزية في لبنان اليوم بهدف الوصول إلى العديدِ من النقاط والأهداف التي لن تستطيعَ الفدرالية تأمينها، ومن أهمها : إنشاء مجالس محليّة منتخبة على أساس نسبي تهدف إلى الإمساك بزمام الإنماء والنهوض بالمناطق عبر إقرار وتنفيذ المشاريع الإنمائية بأسرع وقتٍ ممكن نظرًا لآليات العمل السريعة التي تحتاجها هذه المجالس مقارنةً بالأنظمة المركزية. الهدف من هذه المجالس أن تكون مدنية تراعي الكفاءة في شروط الترشح، وتكون مبنيّة على النسبية، وقد تكون هذه هي الخطوة الأولى نحو التخفيف من الطائفية. أهمية هذه المجالس المحلية الموجودة في الأنظمة اللامركزية مقارنةً بالاتحادات المحليّة الموجودة في الأنظمة الفدرالية هي الطابع غير الديني الذي يمكن لأي إتحادٍ محلي بأن يُقره من خلال الإستقلالية التي تتمتع بها الإتحادات المحلية. بالمقابل، سيُبنى تطبيق الفدرالية في لبنان على أساس طائفي، وبالتالي ستكون الحكومات المحلية لكل إقليم ذات طابع طائفي يتبع للأكثرية الطائفية الموجودة في المحيط الجغرافي الذي سيبنى عليه تطبيق الفدرالية (أقضية أو محافظات). – تحصين الساحة الداخلية من الداخل والداخل فقط لا غير، عبر لقاءات روحية موسعة تشمل جميع الأطراف الأساسية في الداخل اللبناني دون أن تأخُذ أي طابع سياسي، وهنا يكمن دور اللامركزية في هذا النوع من الدُوَل، حيث يمكن إستحداث مجالس روحية مصغّرة تهدف إلى نشر الوعي والتآخي بين الطوائف، وقد تتناول حاجات المواطنين وتنقلها إلى المجالس المحليّة فيتم بذلك الحفاظ على التعددية اللبنانية التي تَعَمَقَ كثيرون بالحديث عنها وعن أهمية الحفاظ عليها. هنا نكون قد خلقنا رابطًا واقعيًا بين مجتمعنا الديني مشتركًا سويًا ومجتمعنا السياسي الإنمائي متمثلًا بالمجالس المحلية من ما قد يُسَهّل عملية الإنماء الذي يطلبه الشعب، فتكون هنا المجالس الروحية والمحلية المدنية منبثقة من الشعب وإلى الشعب، وتعمَل بشكلٍ مُنفصِل ومُستَقِل عن بعضها البعض. في وقتٍ من الصعب أن تُعيدَ وصل مجموعاتٍ يبحثُ كثيرون منها بشكلٍ مُباشرٍ أو غير مُباشرٍ عن أي شكلٍ من أشكال الإستقلالية التي سيجدونها في الفدرالية حتمًا لأنها مطروحة ومبنية على أساس طائفي بحت كما قلنا. – تجنيب لبنان الغرق أكثر في البحر الطائفي عبر إنشاء مناطق مذهبية من خلال الفدرالية، الأمر الذي قد يكون حلًا على للإستقرار على النحو القريب ولكنه سيُفَجِّرُ حروبًا مستقبلية تكون أكثر تعقيدًا من الحرب الأهلية الأخيرة التي عصَفَت بلبنان، وإنَّ ما يحدثُ حاليًا في منطقة الشرق الأوسط هو أفضل دليل على ذلك، فنعود هنا الى اللامركزية ودورها في إرخاء جوٍّ من المدنية واللِحمة الوطنية والإنصهار الوطني. – إمكانية تحقيق الإنماء المتوازن أكبر بكثير نظرًا لسهولة التواصل مع الحكومة مما يحمي حقوق جميع المناطق ويُوَزِع الثروات بشكلٍ عادلٍ وبغَضِ النظر عن ما تتمتع به تلك المناطق من ثروات، وهنا تلعبُ الحكومات دَورَ المُوَزِّع ثُمَّ المراقب والمُصلح لجميع الأمور في البلاد بهدف الحفاظ على التوازن السكاني في المناطق وتَجَنُب الهجرات الداخلية التي قد تؤدي لخللٍ ما في الإكتظاظ السكاني مما قد يُحدث إنفجارات سكانية في بعضِ المناطق. هذا الأمر لا تستطيع الأنظمة الفدرالية تحقيقه بحيثُ يتمتع كل إقليم بثروته البشرية والإقتصادية والإنتاجية الذاتية كما ذكرنا سابقاً، الأمر الذي قد يُنشئ خللًا إقتصاديًا بين المناطق. – وصول الأحزاب الصغرى (المُسمات بالمحلية والتي لا تعمل على مستوى الوطن) أو إمكانية وصول عددٍ من المُستقلّين وغير االمرتبطين بمشاريع سياسية كُبرى، والتي قد تكون مفيدة جدًا بتحريك عجلة الإنماء أكثر من الأحزاب السياسة الكُبرى، وهنا التباين مع الأنظمة الفدراليّة التي تَتَمَيَز بالكانتونات المناطقية التي ستتحَوَل في لبنان إلى بؤرٍ طائفية نظرًا لتقسيمة لبنان الجغرافية والمُهيئة لهذا النوع من الأنظمة. تباعًا لما ذكرناه آنفاً، نرى الدور المهم الذي قد تلعبه اللامركزية من جهات عدة أهمها الإنماء المتوازن ونشر الوعي السياسي في المجتمع عبر تعزيز المنافسة والمُشاركة إضافةً إلى تحقيق الإنصهار الوطني وتخفيف الإحتقان المذهبي، وهذا ما لا تستطيع الفدرالية تحقيقه. أما الهواجس لدى الأفرقاء السياسيين فهي كثيرة ومتعددة وبدأ الكثير منها بالظهور عبر التسلُّط والتربص بالوطن سواءً من خلال تعطيل عمل الدولة المركزية منذ خروج الجَيش السوري من لبنان عبر من يُمَثلونه في لبنان، وذلك بسبب صراعهم على السُلطة مع الطرف الآخر الذي ثار في العام ٢٠٠٥ لإخراج السوري، أو من خلال العودة إلى التهديد بالسلاح والتذكير بمشاهِدٍ من أيام الحرب إضافةً إلى التمسّك بقرارَي الحرب والسِلم من ما خلق هاجسًا مذهبيًا جديدًا حول إمكانية نقل المعركة إلى الداخل في أي وقت، الأمر الذي أدى إلى إستنهاض الشارع اللبناني المناهض لأي سلاحٍ خارج الشرعية والمؤلف من أكثرية (مسيحية-وسنية) من ما أدى إلى تعطيل عمل الدولة المركزية في السنوات التسعة الأخيرة. لذلك نحن اليوم أصبحنا بحاجةٍ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى إلى نظامٍ يحمي وحدتنا الداخلية المهزوزة بسب الإختلاف العامودي الواضح بين الفرقاء السياسيين، فإذًا هذه الدعوة إلى التقسيم على نحو طائفي من خلال تطبيق الفدرالية لا يجب أن تتم، ولا بُدَّ لطرح داخلي متماسك وحديث أن يُبصِرَ النور، فيستطيعُ أن يُعَزِزَ اللِحمَة الوطنية ويُقَرِّبُ وجهاتِ النظرِ المحلية إنطلاقًا من الإنتماء الوطني الذي يجب أن ينوَجِدَ عند جميع المهتمين بالشأن العام في لبنان، وذلك عبر تطبيق اللامركزية متعالين عن أي مكاسب سياسية.