دست الفتاةُ الريفية مبلغاً من المال في يدي، كانت أصابُعها ترتجفُ خوفاً. همستُ لها بموعدِ الغد، وقفلتُ راجعاً من حيثُ أتيت على أن أعود غداً لاِصطحابها. في أثناء طريقي إليها، فكرتُ بإستغلالها لقضاء حاجتي المكبوتة، ولكن قصةٌ مُشابهة اِفتعلتُها منذ فترة رُبَّما تحتاجُ وقت أكثر لتهدأ ضجتها؛ لذلك فضلتُ القيام بعملي دون ملابساتٍ أخرى، على الأقل في هذه المرة. رُبَّما فات الأوان الآن. كُنت سأحظى ببعضٍ من الدقائق الدافئة عوضاً عن أيام برد مضت. من المؤكد أنها تقضي الليلة نائمةً في حديقةٍ عامة، تغرق في حُلم المستقبل. حين رأيتُها كانت ملامِحُها شاحبةٌ مثل لُحاء شجرة. رياحُ الحرب المُلتهبة أبت إلا أن تقتلع هذه الزهرة من تُربتها الخصبة لآخرى قاحلةٍ وبعيدة، رُبَّما تنمو فيها و رُبَّما تموت. هدوءها غريب. لم يعد لها من الوطن سوى بعض التُراب العالق أسفل حِذائها؛ لتستيقظ في اليوم التالي و تنفضُ ماتبقى لها من الوطن، و تمضي نحو المجهول. بحثتُ كثيراً تلك الليلة عن خيطٍ يوصلني للنوم لكن دون جدوى. وجدتُ نفسي مقيداً، لا، بل حُراً يحتاجُ إلى بعض القيود فكثيرٌ من الحرية رُبَّما تُحطم أجنحتي ذات يوم. مازلتُ مستلقياً أتخيلُ العديد من الاِحتمالات للغد، رُبَّما يُقبض علينا قبل البداية، رُبَّما يُقبض على الفتاة؛ للتأكد من هويتها فقط. لما أُفكر بهذه الطريقةِ الآن، ومنذُ بِضع ساعات تمنيتُ لو بإمكاني أن أحظى بها بِضع دقائقَ آثمة. حسب الموعد المُتفق عليه لابُد من أنها تنتظرني، يجب أن أتجهمُ قليلاً، و رُبَّما بإمكاني أن أُظُهر بعض الخوف؛ كي أبثُ فيها بعض الرهبة، فما هي مُقدمةً عليه ليس بالأمر البسيط. فتاة أمتعتها جيوبها، وأملها تحمله السماء. رآيتها تنتظرني. ياللصدفة الحمقاء اِختارتني من جميع أقراني لإيصالها إلى شواطئ الجنة، حيثُ لاتبعد من هنا مسافة اِرتِفاع موجة. قبل وصولي بدقائق حسمتٌ الصراع في نفسي، بدأت أعدُ خطواتي المظلمة ريثما أصل. قبضتُ على يدها وأنا مذعورٌ مثل قاتلٍ في جريمته الأولى، حدثتُها عن كُلّ مخاوفي ولم تبادرني بكلمة، اِكتفت بالضغط على يدي ليس إلا وصلنا.. لم يكن المشهدُ واضحاً جداً بالنسبة لها، في غابةٍ صغيرة غطى الظلام جميع تفاصيلها، رأت بعض الحقائب الصغيرة وأشياءً أخرى برتُقالية اللون لم تدرك ماهي حتى حصلت على واحدةٍ منها، تبين لها أنها الوسيلةَ الوحيدة للنجاة إذا ما اِنقَلَبت موازين الرحلة، اِرتعدت أوصالها خوفاً من القادم وكان بإمكانها التراجع لكنني أظُنها حسمت أمرها وانتهى. مرت قُرابةَ الساعة حتى تم نقلها برفقةِ آخرين. جَلستُ إلى جانب السائق لنقضي رحلةً تستمر ساعتين تقريباً. بعد ساعتين من الإختناق، وصَلت إلى نقطة البداية، سارت في موكب يصل عددهُ نحو الخمسين، يقودهم رجل لايعرفُ إلا الزجر والنهر، يُشيرُ لهم بأن يسرعوا بصمت مثل قطيعٍ من الأغنام يُساق إلى الذبح . على شاطئِ بحر تكاد تلامس أمواجه شواطئ أرض الوطن، صعدت إلى مركب مَطَّاطِيّ صغير، ملوحة البحر تغسِلُ آثام أرتكبتها الحربُ فيها ولم تزل. على يمينها فتاةٌ صغيرة تضيعُ يدها في كفِ والدها، عيناها ذاهلة لاتُدركُ مايحدث حولها، ولا تعلم بأن هذا الجمال المُحيط بها رُبَّما يُنهي حياتها في لحظة غضب. يُحيطُ بها من اليسار مجموعةٌ من الشبان الذين أتعبتهم الحربُ وعبثها. وفي الأسفل أمٌ لم تتخط العشرين من عمرها، تحملُ بين ذراعيها طفلها الصغير، تتلو له المعوذتين داعية الله النجاة. تتكدسُ الأجساد، تصطكُ الأسنان، ويعلو صوتُ الأنين، يطغى صوت المحرك على الأصوات الأخرى، أشير للسائق أن يتحرك. ابتعدتُ قليلاً عن الشاطئ، عجيبٌ أمري، أردت أذيتها، وها أنا خائفٌ عليها من الرحيل، أردتُها ورفضتُها، بل وددتُ العودة إلى أرض الوطن؛ لنقيم تحت أنقاضِ منزلٍ قديم رُبَّما سلك أهلهُ هذا الطريق مسبقاً ولم تكتب لهم العودة. لينتهي كُلّ شيء بعد عدةِ ساعات، رُبَّما تصل أو يحتويها البحر. أردتُ منها أن تعود قَبل بلوغِ النهاية، صرتُ أردد بعد أن ذهبت، إرجعي فملوحةُ البحر لا تحتمِلُ السُكر.