يأتي مصطلح “الدولة الحديثة” كالصفعة القاضية على صديقي الذي يعاتبني بشدة على قرار عودتي إلى لبنان. لا ينفك عن معاتبتي بالرغم من القناعة الكبرى التي أبديتها له، يبدأ حديثه من الجو الإجتماعي العام مرورًا بالهم الصحي وصولا إلى السياسة التي كان لي فيها رأي خاص مغاير عن تلك القناعة المترسخة في عقول اللبنانيين عامة، فالأمر لا ينسحب على السياسة فقط بل يغطي الجانب الإجتماعي والصحي وكل ما يتعلق بالخدمة العامة والوطنية في بناء الدولة الحديثة.
إن الدولة الحديثة والقوية تستطيع بأن تكون في لبنان ولا ينقسها سوى الإيمان ثم القرار، “الإيمان” بقيام الوطن وإتخاذ “القرار” المناسب للإستمرار بهذا الإيمان وعدم فقدان الأمل أبدا. يرد صديقي مستنفرا، ومن أين تبدأ هذه الأحلام التي تراودك؟ لا يمكن إختصار عنوان بناء الدولة الحديثة بمصطلح بسيط، فالدولة وما تمثل في مضامينها من آفاق لبناء الإنسان لا يصلح لها أي عنوان أو شعار فارغ من العناوين الرنانة التي سبق وأن سمعناها كثيرا في الفترات السابقة، لذلك أتى جوابي معتمدا على مجموعة من المبادئ والقيم السياسية التي بنيتها على مدى سنوات، وسمحت لي بأن أتجرأ وأقول بأن بناء الدولة الحديثة ينطلق من إعتماد “الوسطية”.
“الوسطية” لا تصلح وحدها كعنوان، ولكن في العمق هي مجموعة مبادئ متلاحمة في ما بينها لتبني “دولة حديثة”.
إن الوسطية هي نقيد كل ما هو كثير السواد وشديد البياض، والوسطية نقيد التشبث بالمواقف وتفضيل الأنا السياسية على المصلحة الوطنية، والوسطية هي إدارة بناء الدولة وليس التشبث بالموارد عامة في سبيل وضع اليد على ممتلكات الشعب والدولة، كما أن الوسطية هي حركة العمل الدؤوب في سبيل السير بالديموقراطية نحو الديموقراطية وليس العكس، وكذلك تصب الوسطية في ساحة حكم الشعب لنفسه عبر الطبقة الوسطية وليس حكم الإقطاعات السياسية. يتنهد منصتي تارة ويحاول مقاطعتي طورا، لكن محاولاته باءت بالفشل، وسطرت قناعاتي التي رسمتها بالطروحات السياسية الوطنية مدخلا نحو أسئلته الكثيرة عن خلفية هذه العبارات التي لطالما يحلم كل مواطن بأن تطبق في لبنان، فتبقيه هنا حيث ولد وترعرع بالقرب من والديه وأهله وأصحابه وعائلته الوطنية.
بقلم الكاتب والباحث العلمي: زكـريا حمودان – فرنسا