|  آخر تحديث أبريل 28, 2025 , 17:45 م

حِكْمَةُ الغَيْبِ وَطُمَأْنِينَةُ القُلُوبِ


حِكْمَةُ الغَيْبِ وَطُمَأْنِينَةُ القُلُوبِ



لَيْسَتِ الثِّقَةُ بِمَقَادِيرِ اللهِ اسْتِسْلَامًا لِلْوَاقِعِ، بَلْ هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْوَعْيِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، إِنَّهَا إِيمَانٌ لَا يَتَزَعْزَعُ بِأَنَّ الْغَيْبَ يَحْمِلُ خَيْرًا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُغَطًّى بِسِتَارِ الْأَلَمِ أَوِ التَّأْخِيرِ، وَهِيَ أَيْضًا رَفْضٌ خَفِيٌّ لِهَيْمَنَةِ الْقَلَقِ، وَتَمَرُّدٌ صَامِتٌ عَلَى وَهْمِ السَّيْطَرَةِ.

وَلَنَا فِي تَارِيخِنَا الدِّينِيِّ وَالْإِنْسَانِيِّ الْحَضَارِيِّ الْكَثِيرُ وَالْكَثِيرُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ؛ فَنَجِدُ فِي قَوْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ أَمَرَ أُمَّ سَيِّدِنَا مُوسَى، فَقَالَ:

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾
لَوْ تَأَمَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ فينا ظَاهِرِ الْآيَةِ، لَوَجَدَهَا مُخَالِفَةً لِكُلِّ مَشَاعِرِ الْحِمَايَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ اسْتَجَابَتْ أُمُّ مُوسَى، يقينًا منها، فَحِينَ يَشْتَدُّ الْخَطَرُ، لَا تَهْرُبُ أُمُّ مُوسَى بِهِ، وَلَا تُخفيه، بَلْ تُلْقِيَهُ فِي النَّهْرِ! كَانَتِ الثِّقَةُ أَعْمَقَ مِنَ الْخَوْفِ، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ: رجوعُ مُوسَى، لَيْسَ حَيًّا فَقَطْ، بَلْ عَادَ إِلَيْهَا وَهُوَ فِي “قَصْرِ فِرْعَوْنَ”، تُرْضِعُهُ بِأَجْرٍ، وَتَرَاهُ يَكْبُرُ أَمَامَهَا فِي أَمَانٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ نَبِيًّا.

وَلَعَلَّ الْمُرَبِّيَ النَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يَزْرَعُ الْأَمَلَ وَالثِّقَةَ فِي نُفُوسِ مَنْ يُرَبِّيهِم؛ أَوَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى زَارِع الْأَمَلِ الْأَوَّلَ فِي نُفُوسِ صَحَابَتِهِ؟ أَلَمْ يخبرهم: “وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ…”

كَذَلِكَ لَنَا فِي هِجْرَته وَمُكُوثِهِ وَصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ أَبْلَغُ الدُّرُوسِ بِثِقَةٍ مُطْلَقَةٍ بِمَقَادِيرِ الْخَالِقِ، فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَخَافُ “أَبُو بَكْرٍ” عَلَى “الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى”، يُطَمْئِنُهُ النبيُّ بِكَلِمَاتٍ تَتَجَاوَزُ الْحِسَّ الْمَادِّيَّ، إِلَى يَقِينٍ لَا يَتَزَعْزَعُ، إِنَّهَا نُقْطَةُ تَحَوُّلٍ فِي الْفَهْمِ الْكَوْنِيِّ؛ “مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ، اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟”
نَعَمْ، نُطَالَبُ بأَنْ نَأْخُذَ بِالتدابير المادية الظاهرة، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْفَيْلَسُوفُ وَالطَّبِيبُ ابْنُ سِينَا:
“الْعَقْلُ يَقْتَضِي أَنْ نَأْخُذَ بِالْأَسْبَابِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا حِينَ يَعْلَمَ أَنَّ خَلْفَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبًا لَا يُخْطِئُ.”

 

لَعَلَّ الْخَيْرَ يَأْتِي فِي ثَوْبِ تَأْخِيرٍ، وَيَبْقَى بَيْنَ حِكْمَةِ الْغَيْبِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ إِيمَانٌ ثَابِتٌ أَنَّ مَسِيّرَ الْكَوْنِ لَا يَخْتَارُ لَنَا إِلَّا الْأَفْضَلَ لِحَيَاتِنَا وَآخِرَتِنَا، وَإِنْ بَدَا عَكْسَ ذَلِكَ، فكما قَالَ الْفَيْلَسُوفُ الْفَرَنْسِيُّ فُولْتِيرْ: “لَوْ لَمْ أُؤْمِنْ أَنَّ فِي كُلِّ مُصِيبَةٍ حِكْمَةً خَفِيَّةً، لَجُنِنْتُ مِنْ عَبَثِيَّةِ الْكَوْنِ.”

خِتَامًا:
حِينَ تَفْقِدُ مَا تُحِبُّ، أَوْ تَتَعَثَّرُ خُطَاكَ، لَا تَقُلْ: “لِمَاذَا؟”، بَلْ ردد بثقةٍ: “لَعَلَّ فِيمَا حَدَثَ نَجَاةً لَمْ أُدْرِكْهَا بَعْدُ.”
ثِقْ بِأَنَّ اللهَ لَا يُدِيرُ هَذَا الْكَوْنَ عَبَثًا، الثِّقَةُ بِمَقَادِيرِهِ هِيَ وَعْيُكَ الْأَعْلَى، وَارْتِقَاؤُكَ مِنْ ضَجِيجِ الْفَوْضَى إِلَى يَقِينِ السَّكِينَةِ.

 

عبد العزيز محمود المصطفى

كاتب وأكاديمي
حساب الفيسبوك: https://www.facebook.com/share/195RfdeKtk/


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com