صغيرة كنت عندما لفتني واستهواني نقاش طويل أثير مع جدّي رحمه الله. وهو مترجم كتاب الساعة الخامسة والعشرون للكاتب كونستانتان جيورجيو حول ما ورد في هذا الكتاب من معالجة لأخطر تحوّل قيمي في تاريخ البشرية، وهو تحوّل الإنسان من المجتمع اليدوي إلى مجتمع صانع الآلة، وعبوديته ما أبدع وصنع .
ومن ضمن ما سمعته حينذاك، وأصابني بالذهول ولم أحسن فهمه وتفسيره، أن الله نفسه صدرت عنه تصرّفات غير ذات نفع كبير عند بدء الخليقة. لقد أوجد أشياء غير ذات نفع عمليّ لكنها أجمل ما أوجد وخلق!
خلق الإنسان.
كبرت وقرأت ذاك الكتاب مرّات ومرّات. وفي كلّ مرّة أرى فيها بإسقاطه على واقعنا حقيقة الصراع بين القيمة والمادة من جهة ومفهوم الحضارة والإنسانية من جهة أخرى. وأنه ما هو إلا صراع بين الإنسانية والبربرية يتجلّى في كون الإنسان إذا هيمن أزهق ملايين الأرواح ودمّر ملايين النفوس ليبتسم بعد ذلك متباهياً زاعماً أنه قضى على الماضي ومساوئه، وأنه بصدد إيجاد حاضر سيشرق بأفكاره ومعتقداته بمستقبل كما يرغب.
وهذا حال المتعصبين في يومنا هذا. والمتعصّب هو من لا يحترم قوانين المنطق ولا يجرؤ أحد على مخالفته لأنه عندما يكون في حال تنكّب الوضوح والمنطق السديد، يجب ألا يعارض، لأنه وحش ثائر، وكل محاولة لإعادته إلى جادة الصواب تبوء بالفشل سلفاً.
وواقعنا اليوم يشبه إلى حدّ كبير هذه الجزئية من الكتاب، ويفسّر جلياً ما جهلته سابقاً.
ترانا في الساعة الأخيرة؟ أم هي ساعة بعد الساعة الأخيرة تلك اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى؟ الساعة الخامسة والعشرون!
بقلم: رشا المارديني