فقد الدولار بعضاً من بريقه خلال الشتاء الحالي مع تلاشي التأثير الإيجابي للدعم المزدوج الذي تمتع به باعتباره ملاذاً مفضلاً خلال فترة جائحة فيروس كورونا المستجد، واستناده إلى أقوى اقتصاد في العالم. والآن تهتز دعامة أخرى من دعائم العملة الأمريكية، في ظل الشكوك بشأن المدى الذي يمكن أن يصل إليه مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي في زيادة أسعار الفائدة، حيث يعيد المجلس حساباته في هذا الشأن نتيجة المخاوف من ركود الاقتصاد الأمريكي. ويعني هذا احتمال معاناة العملة الخضراء من دورة تراجع ممتدة.
ومع ذلك فهذا لن يكون له تأثير كبير في مكانة العملة الأمريكي كعملة احتياطي عالمية، فالدولار الملك ثابت على عرشه على حد وصف المحلل الاقتصادي ماركوس أشوورث في تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء. ولكن ما ليس جيداً بالنسبة لقيمة الدولار هو أمر جيد لباقي دول العالم، حيث ستقل الحاجة إلى استمرار مواكبة صعود الدولار. ففي الشهور الماضية اضطرت البنوك المركزية في العديد من دول العالم إلى زيادة أسعار الفائدة، بما يتجاوز المطلوب لكبح جماح التضخم حتى تحافظ على قيمة عملاتها أمام العملة الأمريكية التي استفادت من سلسلة رفع أسعار الفائدة الأمريكية منذ العام الماضي.
هذا التحول مفيد في تصحيح اختلال كبير معروف باسم “ابتسامة الدولار” الذي ظل في صالح العملة الأمريكية أغلب فترات العقد الحالي. فمن المحتمل مواصلة المضي نحو قاعدة منحنى شكل الابتسامة، حيث يتراجع الدولار باطراد، وهو ما يعني عودة رؤوس الأموال للتدفق إلى الدول الأخرى بعد فترة عودتها الكثيفة إلى السوق الأمريكية خلال فترة زيادة أسعار الفائدة وقوة العملة الخضراء.
في الوقت نفسه فإن الأزمة المصرفية الإقليمية التي شهدت انهيار ثلاثة بنوك أمريكية حتى الآن، تمثل نوعاً من التعثر الذي يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي. علاوة على ذلك فإن النظر إلى الدولار باعتباره ملاذاً آمناً سيتراجع إذا تعرض النظام المصرفي الأمريكي للضغوط، وبخاصة إذا لم يواجه النظام المالي العالمي لأزمة مماثلة، خاصة مع النظر إلى أزمة بنك كريدي سويس جروب السويسرية باعتبارها واقعة غير متكررة، وبالتالي لن تؤدي إلى زيادة سعر الدولار.
وتشير التوقعات إلى أن الولايات المتحدة ستبدأ خفض أسعار الفائدة خلال الربع الثاني من العام الحالي، ما يعني مزيداً من التراجع في سعر الدولار.
في المقابل، فإن العملة الأكثر أهمية من الناحية التجارية مقارنة بالدولار هو اليورو. وخلال اجتماع مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي يوم 16 مارس الحالي، تقرر زيادة الفائدة الأوروبية بمقدار 50 نقطة، في حين اختار البنك المركزي الأمريكي تخفيف وتيرة زيادة الفائدة، حيث قرر زيادتها بمقدار 25 نقطة أساس فقط. هذه التحولات أدت لزيادة قيمة اليورو أمام الدولار بنسبة 12.5% خلال الشهور الستة الماضية ليصل لأكثر من 1.08 دولار لكل يورو، بعد فترة تراجع للعملة الأوروبية خلال المدة من أغسطس إلى نوفمبر الماضيين.
وبحسب مسح أجرته وكالة بلومبرج فإن احتمال حدوث ركود اقتصادي في منطقة اليورو انخفض إلى النصف خلال العام الحالي، ليصبح أقل من احتمال ركود الاقتصاد الأمريكي الذي يبلغ نحو 60%. وهذا تحول واضح في التوقعات، حيث كانت منطقة اليورو تتجه في الفترة الماضية نحو الركود وعانت من أكبر ارتفاع لأسعار الغاز الطبيعي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر فبراير من العام الماضي.
ولم يتفوق على اليورو بالنسبة للدولار بين العملات العشر الرئيسة في العالم سوى الجنيه الإسترليني الذي ارتفع أمام الدولار بأكثر من 14% خلال ستة أشهر، في حين ارتفع الين الياباني بنسبة 10% خلال الفترة نفسها. والقاعدة العامة الرئيسة تقول إن مراكز التصدير الصناعي الكبيرة في منطقة اليورو واليابان استفادت من ارتفاع قيمة الدولار؛ لأنه يجعل منتجاتها أرخص في السوق العالمية، لكن الارتفاع الحاد لأسعار الطاقة جعل هذه الدول في نفس القارب، مثل الاقتصادات الأخرى التي تعتمد على صادرات الطاقة.
في الوقت نفسه فإن أكبر الدول الرابحة من الدولار الضعيف نسبياً، موجودون في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، حيث ارتفع سعر البيزو الشيلي 22.5%. كما أن المكاسب الأوسع نطاقاً تأتي من الدول المستوردة للطاقة والتي تضررت من ارتفاع أسعار الغاز. ولأن أغلب السلع في العالم تسعر بالدولار، فإن أي ارتفاع في قيمة العملات المحلية أمام العملة الأمريكية يعطي فرصة لتلك الدول لالتقاط الأنفاس.
ويقول ماركوس أشوورث كبير خبراء الأسواق في شركة هايتونج سيكيوريتز للوساطة المالية، سابقاً إن الارتفاع الكبير لسعر الدولار خلال 2021 ومعظم فترات 2022 خلق مشكلات كبيرة في الدول النامية والدول المتقدمة على السواء، حيث اضطرت البنوك المركزية إلى زيادة أسعار الفائدة لمنع انهيار عملاتها المحلية، في الوقت الذي شدد فيه مجلس الاحتياط الاتحادي السياسة النقدية الأمريكية. والآن سيكون العالم ممتناً لفترة من الهدوء المهم بالنسبة لعملة الاحتياطي النقدي العالمي.