ما قبل النفط كان الرخاء الذاتي مبعثه روح الصحراء القتالية، كانت القلوب بسعة الصحراء وصلابتها، فانتشى المكان بالدؤوب من العمل، وبالخضوب من الفعل، اليوم وقد ازدهرت البلاد ثراء العقول، وسخاء النفوس، وتحققت إنجازات أبهرت العالم، وأدهشت كل من وطأت قدماه أرض الإمارات، اليوم هناك المثابرة الذاتية التي جعلت من النفط رافداً ثانوياً للإنتاج، أي ما يقارب الـ 30٪، والعين تتسع حدقتها إلى ما دون ذلك بكثير، لأن الطاقة العقلية لدى فريق الإمارات تتجاوز حدود العادي، وتحاذي الاستثنائي والفريد، اليوم الإمارات سفينة ترسو عند محيط من القدرات البشرية، والإبداعات والابتكارات ما يجعل الوطن لا يلتفت إلى شيء بقدر ما يلتف حول العقل الباني. عقل الإنسان الذي صار مقياس الحقيقة ومعيار التطور، عقل الإنسان الذي جعل من الصحراء طائرة محملة بالخير تهبط عند جبين الأفق، عقل الإمارات، سندسها وإستبرقها، وقوتها وبريقها وهو المكون الأساسي لاقتصادها المبتهج ونموها الرائج في سماء العالم.
ما بعد النفط، رؤية واحدة موحدة حول الإنسان قيمته الإبداعية وسخائه في العمل على رفع طاقة الإنتاج، ودفع عجلة التطور نحو مناطق واسعة من العشب القشيب.. ما بعد النفط، حلم يتحقق على أرض الواقع، وتاريخ يكتب صفحاته بحبر الأفئدة المشتعلة نشاطاً، المشعة نوراً، المبهرة في التضحيات.. ما بعد النفط مراحل تؤكد كفاءة العقل عندما يكون نهراً يستشف تألقه من خلوده، ويرتشف رحيقه من روافد منبعها أوردة الدم المبثوثة من قلوب لا تكف عن البلل، ولا تجف أقلامها عن كتابة العبارة الخالدة، أن الإنسان يملك من الطاقة ما لا يتخيله عقل بشر، وإذا ما استثمر هذه الطاقة يستطيع أن يروض الطبيعة، ويجعلنا سفينة صحرائه التي تنقله إلى قارات البذخ، والثراء الاقتصادي.. وهذا ما تقوم به القيادة الرشيدة، إنها الحافز الذي يوقظ الدوافع، وهي القوة الخارقة التي توعز للإنسان بأن يكون مختلفاً، ويستطيع أن ينجز حضارته الراقية من دون أن يقف مكتوف الأيدي بانتظار ما تسخو به محيطات الأمل.. ما بعد النفط هو الرهان للعقل، وهو المكان الذي تسير فيه، الحياة بشكل طبيعي من دون البحلقة في الفضاء والعقل مثل الإسفنجة التي تمتص الآلام ولا تصحو.. ما بعد النفط يأتي بعد اجتماع السحاب، لتمطر الرؤوس أفكاراً وأخباراً، وأسراراً، تكون هي اليقين الوطني، وهي الحلم تمشي على الرموش ثم أصبح كحلاً للعين، ثم صار البريق الذي يضيء طريق الذاهبين إلى المجد، القابضين على شعلة النهوض، المشبعين بالقناعة أنه لا مجال له للتوقف عند محطات الانتظار، فالقطار الإماراتي سريع جداً، ورؤية القيادة أسرع من الضوء.. ما بعد النفط مرحلة تثب فيها الجياد نحو المستقبل، بقلوب صافية ومتحدية.
في تاريخ الشعوب والامم هناك دوما مراحل مفصلية هامة يحددها الاقتصاد وتلعب السياسة دورا في ترسيخها والاضافة إليها. وليس هناك شعب في التاريخ عرف تلك المراحل المفصلية وتأقلم معها كأهل الخليج.
ففي الماضي عاشت جميع شعوب الخليج على اقتصاد اللؤلؤ الطبيعي الذي شكل العمود الفقري لاقتصادها والذى اثر على التركيبة السياسية والاجتماعية. اقتصاد اللؤلؤ انهار في نهايات العشرينيات من القرن العشرين لكي تنهار معه جملة من الاوضاع العامة ويترك تداعيات خطيرة على مجتمعات الخليج. ولكن في ثلاثينيات القرن العشرين ظهر البترول لكي يأخذ مكان اللؤلؤ ويبدأ لعب دور كبير في حياة شعوب الخليج حتى الوقت الراهن.
ولكن البترول كان مختلفا عن اللؤلؤ. فقد تفوق البترول في حجم التأثير وفي عمق التغير. وأوجد انماطا حياتية وسلوكية مغايرة وترك بصمته الكبيرة على كل مناحي الحياة. ولفترة طويلة كانت الادبيات في كافة مجتمعات الخليج تركز على الاوضاع قبل النفط وبعده وكيف لعب النفط الدور الاهم في التغير حتى غدا أهم عامل للتغير في هذه المجتمعات.
فتأثيره كبير على مجمل الاوضاع وانعكاساته عميقة على التركيبتين الاجتماعية والسياسية للمنطقة. كان مجرد ظهوره في بقعة كفيلا بنقلها الى الاضواء لكي تكون محط أنظار العالم خاصة وأنه كان المسؤول عن دوران عجلة الصناعة في مشرق العالم ومغربه.
وفي الإمارات التي لا يمكن أن نفصلها عن محيطها الخليجي، طغى عنوان «الإمارات قبل النفط وبعده» على الكثير من الادبيات التي كتبت عن المنطقة حتى يعتقد بأن التأثيرات التي طالت الامارات من وراء البترول ليست كمثلها مؤثر. ولمَ لا والنفط لعب دورا مهما ليس بكونه ممولا لما حدث من التطورات المادية بل كان مهما في التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة وكان الاتحاد أحد أهم مكتسباتها. ولكن الظروف الاقتصادية في العالم تغيرت واسعار تلك الطاقة الهامة تذبذبت. فهوى سعر برميل النفط واصاب بعض الدول غير المستعدة بالحيرة والذهول خاصة تلك التي لم تضع في الحسبان ذلك الهبوط الكبير لأسعار النفط. وبدأت الكثير من الدول تضع السيناريوهات المناسبة لبيئتها الاقتصادية ومجتمعها بعيدا عن النفط الذي استمرت اسعاره في التذبذب صعودا وهبوطا. ولكن الإمارات التي عرفت دوما بالتخطيط الجيد للتعاطي مع المستقبل وجميع احتمالاته بدأت بوضع الاستراتيجيات والخطط المناسبة لتدارك تلك المتغيرات خاصة تلك التي تنعكس على مفاصل الحياة في المجتمع.
فبدأت منذ فترة طويلة، وحتى قبل النزول الكبير لأسعار النفط، برسم كافة السيناريوهات التي يمكن أن تحولها الى خطط حالما يثبت جدواها وفعاليتها. فبدأت حتى من قبل هبوط أسعار النفط بالتخطيط الجيد للمستقبل بعيدا عن النفط. فتنويع مصادر الدخل والترويج للسياحة كان من أهم الطرق التي سلكتها الإمارات لمواجهة هذا التحدي.
الإمارات بعد النفط لن تكون كالإمارات بعد اللؤلؤ. الوضع مختلف تماما. فقد شهدت الإمارات وكل دول الخليج تداعيات انهيار اسعار اللؤلؤ الطبيعي في نهاية العشرينيات وفترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وكانت دول الخليج معتمدة اعتمادا كليا على اللؤلؤ الذي كان عصب اقتصادها.
واضطر الناس الى التعايش مع تداعيات الازمة الى أن ساهمت الاوضاع الاقتصادية آنذاك في وضع حد لها مع ظهور اقتصاد جديد هو البترول وامتيازات الطيران. ومنذ منتصف القرن العشرين عاشت دول الخليج معتمدة على الوفرة والطفرة التي أحدثها النفط واسعاره المرتفعة. فطورت تلك الدول نفسها وأوجدت بنية تحتية معتمدة على عائدات النفط.
وكانت أكثر ما تخشاه وهي في طور التنمية والبناء أن يحدث انخفاض في أسعار النفط يؤثر على خططها التنموية على الرغم من كل التطمينات بأن الطلب العالمي على النفط سوف يظل عاليا والاحتياطات البترولية تكفي لمدة 100 سنة قادمة. ولكن ما كانت تخشاه دول الخليج قد حدث. فالتذبذب في أسعار النفط وتدني الطلب عليه جعل دول الخليج جميعها في مواجهة تحد مستقبلي عليها مواجهته بحزم ووضع الحلول المناسبة له.
لقد استفادت الإمارات ودول الخليج من ريع النفط في بناء أهم ثروة الا وهي الثروة البشرية المتعلمة والمؤهلة القادرة على التعاطي مع المستقبل. كما استطاعت بناء اقتصاد جديد هو اقتصاد المعرفة وتهيئة طاقة جديدة هي الطاقة النظيفة.. هذه الثروات هي الضمان الاكيد اليوم لدولة الإمارات في عبور هذه الازمة بسلام.
بقلم الكاتب: محمد عبدالمجيد علي – ( مصر )