|  آخر تحديث أغسطس 26, 2022 , 21:56 م

انقلاب غواتيمالا


انقلاب غواتيمالا



ليس من السهل كتابة رواية تاريخية في التاريخ الحديث، إذ ما زال بالإمكان تعقب الأحداث ومعرفة تفاصيلها، لكن الكاتب ( خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا ) المعروف باسم ” ماريو فارغاس يوسا ” ( Mario Vargas Llosa) ، المولود عام 1936، وهو سياسي سابق وكاتب صحافي وأستاذ جامعي من البيرو ولديه الجنسية الاسبانية، يُعدّ من أبرز الروائيين والكُتاب في أمريكا اللاتينية، ويعتبر النقاد أن له تأثيراً دولياً وجمهوراً عالمياً ، وحصل عام 2010 على جائزة نوبل للآداب، وقد كان فاز بعدة جوائز منذ الستينيات، كان آخرها وسام بابلو نيرودا للاستحقاق الفني والثقافي عام 2018 ، ويُعتبر واحداً من الشخصيات ال 25 الريادية في لجنة الإعلام والديمقراطية التي أنشأتها منظمة ” مراسلون بلا حدود ” . لم يكن صعبا على كاتب بصفات وخبرة يوسا أن يغوص في قصص واقعية من التاريخ القريب ، ويسبر أغوارها ودهاليزها ويخلق عالما متوازياً من الخيال ويضيف الخيال الى الشخصيات الواقعية في واحدة من القصص التي غيّرت مجرى حياة قارة بأسرها.

 

لم يتوان يوسا في فضح ( وكالة الاستخبارات الأمريكية ) ووسائلها الخداعية في تبني قيادات في بلد ما والتخلص من أخرى في أي بلد لتحقيق مصالحها، وربما لهذا السبب بالذات جعل كتاب ( Harsh Times ) الذي صدر في ( 2021-11-24 ) يحظى باهتمام بالغ، خاصة أن للكاتب تاريخاً سياسيا وأدبيا حافلاً بالمؤلفات والمواقف .
واهتمت صحيفة ” غارديان ” بالكتاب وأفردت مقالاً في قسم ” كتاب اليوم ” بقلم الكاتب ( إدوارد دوكس ) لمراجعة كتاب يوسا Harsh Times عن انقلاب غواتيمالا الذي حدث في خمسينيات القرن الماضي ، كاشفاً أكاذيب وأسرار وكالة الاستخبارات المركزية.

ويذكر دوكس أن يوسا الذي ترشح لمنصب رئيس البيرو عام 1990 ، ويُعد كاتب أمريكا اللاتينية الأبرز في جيله، لا يخاف من كتابة روايات سياسية عن مصير الأمم وصراع الأيديولوجيات السياسية، فهو القادر فكرياً على صوغه بمهارة فنية ودرامية عالية .
تدور القصة في خمسينيات القرن الماضي في ( غواتيمالا ) وعناصرها فساد ضارب حتى النخاع ووكالة الاستخبارات المركزية والتآمر الدولي .
تركز الرواية التي تلازمها روح الدعابة على الانقلاب وإطاحة الرئيس ( أربينز ) ومن ثم اغتيال خليفته( كارلوس كاستيلو أرماس ) عام 1957 كجزء من المؤامرة الدولية. تبين الرواية واحدة من الأكاذيب التاريخيه، ف إدوارد إل بيرنانيز هو مدير العلاقات العامة في شركة( United Fruits ) التي تحقق أرباحاً مذهلة من بيع الموز الغواتيمالي في العالم وهي مرتبطة مالياً بوزير خارجية أمريكا الجمهوري ( جون داليس ) وشقيقه الان مدير ال ( CIA ) .
يقتبس كاتب المقال من يوسا ” بالطبع هم لم يخترعوا الموز ولم يدفعوا سنتاً واحداً من الضرائب ” ، كما أنهم عاملوا العمال كأنهم عبيد ، لكن ما حصل أن أربينز على الرغم من ذلك أراد تمرير قانون الإصلاح الزراعي لتغيير الحياة الاقتصادية والاجتماعية للملايين بشكل تدريجي. وبدأ بتقصي الحقائق ليجد أن خطر تحوّل غواتيمالا إلى الشيوعية أمر بعيد المنال ، ولا تمثل ” حصان طروادة السوفييتي ” الذي يتسلل عبر الباب الخلفي للولايات المتحدة، لذا من أجل حماية أرباح الشركة لا بد من ابتكار أمر جديد يبدو وكأنه تهديد خطير طاريء، أي الادعاء أن هناك مشكلة ثم أعرض نفسك كحل حتى تتمكن من الاستيلاء على السلطة.
انقلب الأمر على الرئيس وأُطيح به وهو يتساءل إن كان من الممكن اختراع ” شيء رائع مثل الشيوعية في غواتيمالا؟ ” وأضاف أن الهدف كان منع الفقر والظلم وعدم المساواة الاجتماعية ما دفع الغواتيماليين نحو الشيوعية.
مع هذا الانقلاب ، تصبح غواتيمالا ” بلداً محموماً ” تسوده الكراهية لمحاربة أمر لا يهدد على الإطلاق وتبدأ رحلة البلد بالتراجع نحو ” القبلية والعبثية ” .

الأحداث الواقعية : انقلاب 1954 في غواتيمالا:
انقلاب غواتيمالا 1954 كان الانقلاب الغواتيمالي الذي أّطلق عليه اسم العملية ( PBSUCCESS ) ، عملية سرية نفذتها ( وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ) ( CIA) ، التي أطاحت بالرئيس الغواتيمالي( جاكوبو أربينز ) المُنتخب ديمقراطيا وأنهت الثورة الغواتيمالية( 1944- 1954 ) .
لقد قامت بتثبيت الديكتاتورية العسكرية ( كارولوس كاستيلو أرماس ) وهو الأول في سلسلة الحكام الاستبداديين المدعومين من الولايات المتحدة في غواتيمالا.

بدأت الثورة الغواتيمالية في عام 1944 ، بعد أن أطاحت انتفاضة شعبية بالديكتاتورية العسكرية ( خورخي أوبيكو ) ، تم انتخاب( خوان خوسيه أريفالو ) رئيساً في أول انتخابات ديمقراطية في غواتيمالا، قدم الحد الأدنى للأجور والاقتراع شبه العالمي، وحول غواتيمالا الى ديمقراطية، خلف أريفالو أربينز عام 1954 ، الذي أجرى إصلاحات الأراضي التي منحت الملكية للفلاحين المعدمين، لم تعجب الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الثورة الغواتيمالية، والتي كانت مهيأة خلال الحرب الباردة لرؤيتها شيوعية ، نما هذا التصور بعد أن تم انتخاب أربينز وإضفاء الشرعية الرسمية على حزب العمل الشيوعي الغواتيمالي، شاركت شركة الفاكهة المتحدة التي تأثرت أعمالها المربحة للغاية بنهاية ممارسات العمل الاستغلالية في غواتيمالا، في حملة ضغط مؤثرة لاقناع الولايات المتحدة بالاطاحة بالحكومة الغواتيمالية .

 

أذن الرئيس الأمريكي( هاري ترومان ) لعملية ( PBFORTUNE ) لإسقاط أربينز في عام 1952 ، على الرغم من إحباط العملية بسرعة الا أنها كانت مقدمة ل ( PBSUCCESS) . تم انتخاب دوايت د. أيزنهاور رئيسا للولايات المتحدة عام 1952 ، ووعد باتخاذ موقف أكثر صرامة ضد الشيوعية ، توصلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية إلى استنتاجات مبالغ فيها حول مدى التأثير الشيوعي بين مستشاري أربينز.

أذن آيزنهاور لوكالة المخابرات المركزية بتنفيذ عملية ( PBSUCCESS ) في أغسطس 1953 ، قامت وكالة المخابرات المركزية بتسليح وتمويل وتدريب قوة من 480 رجلا بقيادة كارلوس كاستيلو أرماس، وسبق الانقلاب جهود الولايات المتحدة لانتقاد وعزل غواتيمالا دولياً ، غزت قوة كاستيلو أرماس غواتيمالا في 18 يونيو 1954 ، مدعومة بحملة ثقيلة من الحرب النفسية ، وشمل ذلك محطة إذاعية تبث دعاية معادية للحكومة ونسخة من الأحداث العسكرية المواتية للتمرد، مدعية أنها أخبار حقيقية، وكذلك القصف الجوي لمدينة غواتيمالا والحصار البحري، كانت قوة الغزو ضعيفة عسكريا، وهُزمت معظم هجماتها، ومع ذلك فإن الحرب النفسية والخوف من غزو أمريكي أخاف الجيش الغواتيمالي الذي رفض القتال في نهاية المطاف.

حاول أربينز لفترة وجيزة دون جدوى تسليح المدنيين لمقاومة الغزو، قبل الاستقالة في 27 يونيو، أصبح كاستيلو أرماس رئيسا بعد عشرة أيام بعد مفاوضات في سان سلفادور.

وُصف الانقلاب بأنه ضربة قاضية للديمقراطية في غواتيمالا، وانتقد على نطاق واسع على الصعيد الدولي ، وعزز المناهض للولايات المتحدة طويل الأمد المشاعر في أمريكا اللاتينية، في محاولة لتبرير الانقلاب، أطلقت وكالة المخابرات المركزية عملية ( PBHISTORY) ، والتي سعت للحصول على دليل على التأثير السوفييتي في غواتيمالا بين وثائق من عصر أربينز، كان الجهد فاشلا، سرعان ما تولى( كاستيلو أرماس ) سلطات ديكتاتورية وحظر أحزاب المعارضة وسجن وتعذيب المعارضين السياسيين، وعكس الإصلاحات الاجتماعية للثورة. وتبع ذلك ما يقرب من أربعة عقود من الحرب الأهلية في غواتيمالا.
الحرب الأهلية في غواتيمالا هي حرب جرت بين 1960- 1996 بين الحكومة الغواتيمالية ومختلف جماعات اليسارية المتردة، التي كانت مدعومة بالأساس من المزارعين المنتمين لشعب ( المايا ) الأصلي وشعب ( اللادينو ) ، أُتهمت القوات الحكومية بتنفيذ إبادة جماعية لشعب المايا في غواتيمالا وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد المدنيين.

تتركز أسباب الصراع حول قضايا التوزيع غير العادل للأراضي التي طال أمدها، سيطر المقيمون الأوربيون والشركات الأجنبية مثل شركة الفاكهة المتحدة الأمريكية، على الكثير من الأراضي مما أدى إلى نزاعات مع الفقراء الريفيين.
تشير التقديرات إلى أن 140,000 إلى 200,000 شخص قد قُتلوا أو اختفوا قسرياً خلال النزاع ، بما في ذلك 40,000 إلى 50,000 حالة اختفاء.
في عام 1996 تم التوقيع على إتفاق سلام بين الأطراف المتنازعة وضع حداً لحرب أهلية دامت نحو 36 عاماً وأدت إلى مقتل واختفاء ما يقارب 250 ألف شخص.
حتى يومنا هذا لا تزال السلطات في غواتيمالا لم تقم بعد بجهد حاسم لمحاكمة أفراد الجيش المتهمين بإرتكاب انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية خلال حقبة الصراع المسلح( 1960-1996) .
بحسب منظمات حقوق الإنسان فإن 90% من الجرائم التي أُرتكبت إبان الحرب الأهلية قام بها أفراد من القوات المسلحة والشرطة.
إلى يومنا هذا لم يحصل معظم الضحايا والناجين على أي تعويض معنوي أو مادي.

ختاماً عزيزي القاريء…

باختصار رواية ( Harsh Times ) قصة تواجه التاريخ الحديث من مؤامرات دولية ومصالح متضاربة في زمن الحرب الباردة، ومازالت نتائجها تظهر حتى يومنا هذا، يدمج فيها الكاتب الواقع بخيال قصة الراوي الذي يعيد خلق الشخصيات والمواقف بحرية لا يخشى فيها لومة لائم، ويزيح الستار بجرأة عن أكاذيب وكالة الاستخبارات ولا ينسى أن يقدم نصاً فريداً ومدهشاً وعميقاً ومليئاً بالواقع.

 

 

بقلم: فاتن الحوسني


أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

WP Facebook Auto Publish Powered By : XYZScripts.com