منذ مطلع القرن العشرين، أنجبت المدرسة السوفييتية-الروسية في مجال الدراسات العسكرية والجيوبوليتيكية شخصاً أكاديميا ذات صيت عالمي ، أسهمت من خلال نظرياتها في صياغة التوجهات الاستراتيجية الكبرى للبلد في أذهان صناع القرار الروسي، ولعلّ أشهرها وأهمها النظرية السياسية الرابعة ، والتي يقف وراءها البروفيسور ألكسندر دوغين، الذي يُطلق عليه البعض صفة العقل المُدبّر لسياسات الكرملين، وهو يُعدّ من أشهر المفكرين الروس في الوقت الحاضر ومؤسس تيار ” النيو الأوروبية الآسيوية ” ، ومن أشد منتقدي العولمة، ويعتقد دوغين ان على روسيا أن يكون لها حضور مؤثر في السياسة العالمية ، وقيادة التيار المناهض للديمقراطية الليبرالية، وكانت هذه النظرية من الأسباب التي دعت وزارة الخزانة الأمريكية إلى درج اسمه على قائمة العقوبات الخاصة بالوزارة. ويقول دوغين :
” لقد انتهى القرن العشرون، ونحن الآن فقط بدأنا ندرك ذلك بشكل كامل ، لقد كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات ” ، يذكر دوغين ثلاث أيديولوجيات حية وحاضرة في القرن العشرين هي الفاشية والشيوعية والليبرالية، فمنذ هزيمة الفاشية والشيوعية وذهابهما في طيّ التاريخ، فإن الليبرالية بدأت تصول وتجول في الساحة دون منازع، والفكرة الأساسية للنظرية السياسية الرابعة كما يقول ألكسندر دوغين هو تقديم نموذج جديد خارج عن الشيوعية والليبرالية والفاشية.
وتبرر النظرية السياسية الرابعة الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب وحوار الحضارات.
– ألكسندر دوغين……. مُلهم بوتين ومحرك غزو أوكرانيا:
ألكسندر دوغين يصفه الكثيرون بمحرك غزو أوكرانيا، ومعجب بشخصية ترامب ويرى بوتين زعيماً مطلقاً ، وأكبر داعم لاحتلال وقصف روسيا لأوكرانيا، وهو القائل : ” أنا مُنظّر وبوتين مطبق لأفكاري، في روسيا يوجد بوتين وأنا والشعب ، وهناك من هم أقرب مني لبوتين لكن تأثيرهم عليه صفر ، يتحدث تسعة لغات ، يكره الليبرالية، وضعته أمريكا على لائحة العقوبات.
ألكسندر دوغين من مواليد 1962 ، لعائلة روسية ، الأب فيها يعمل جنرالاً في الاستخبارات السوفييتية، والأم تعمل طبيبة، ترك والده الأسرة عندما كان في الثالثة من عمره ، في العام 1979 التحق ألكسندر دوغين بمعهد موسكو للطيران لكنه قرر ترك دراسته والإلتحاق بكلية الفلسفة ليتخرج بماجستير في الفلسفة قبل أن يحصل على شهادتي الدكتوراة : أحدهما في علم الاجتماع، والأخرى في العلوم السياسية، وهو الآن أستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية، وفي السنوات التي سبقت تفكك الإتحاد السوفييتي في ثمانيات القرن الماضي اعتبر ألكسندر دوغين نفسه منشقاً ومناهضاً للشيوعية ومن ثم شارك في انتفاضة شعبية التي أدت إلى إسقاط بوريس يلتسن، وقد شارك في الانتفاضة الشعبية ضده ، وعقب تخرجه عمل صحفياً قبل أن ينخرط في السياسية قبل سقوط الشيوعية مباشرة.
ومنذ 1991 ، اكتسبت أفكاره مكانة مهمة في الأوساط السياسية والعسكرية، وقد جذبت نظريات دوغين العسكريين الروس ، لأنها قدمت لهم تفسيراً لموقف الغرب من روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي واستمرار التهديد الغربي ، رغم بوادر تحول روسيا إلى ليبرالية، تسمح بصعود سياسيين يعملون على دمج الدولة في الثقافة الغربية وقدمت تفسيرا لاستمرار زحف الناتو على روسيا رغم تنازلاتها على الصعيدين العسكري والاقتصادي وقتها.
في الوقت نفسه كان بوتين قد صعد إلى السلطة السياسية، وكأغلب رجال السياسية والعسكريين في روسيا تبنى بوتين نظريات ألكسندر دوغين علناً ، في خطابه السياسي وكذلك قراراته.
آراؤه تؤخذ على محمل الجد لدى صناع القرار في روسيا قيل عنه انه العقل المدبر لضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014 ، ويُعدّ دوغين من أهم مُنظرّي فلسفة القومية الروسية والطرح الأوراسي الذي تتبناه روسيا – بوتين ، والذي يعتبر المحرك الرئيسي وراء غزو أوكرانيا والمتابع لسياسة روسيا الخارجية خلال العقد الأخير ، حيث يجد دوغين بفكرة استعادة أمجاد روسيا العظمى ، منذ البدايات وحتى غزو أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي 2022 .
يرى بعض الباحثين أنه بنهاية ديسمبر 2021 ، وقبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا بشهرين فقط ، نشر دوغين مقالة مطولة تحت عنوان : ” أوكرانيا في اللعبة الكبرى ” ، عرض فيها موجزاً دقيقاً لتاريخ أوكرانيا وعلاقتها الجغرافية والتاريخية بروسيا، مركزا على مدى التشابك الثقافي بين البلدين، ومعتبراً أن التقسيم الذي حدث في فترة الإتحاد السوفييتي كان تقسيماً إداريا فقط ، تطور لانفصال كامل بعد سقوط الإتحاد السوفييتي نتيجة لتدخل الغرب، وفي نهاية المقال يتنبأ دوغين بحال من الاثنين في ظل تصاعد المطالب الأوكرانية بالانضمام للتحالف الغربي:
1- تقسيم أوكرانيا: الضفة اليمنى الغربية لأوكرانيا، ونوفوروسيا، مع وضع خاص لكييف.
2- أو أن نشهد صراعاً عسكرياً مسلحاً يمكن أن يؤدي لحرب كونية جديدة !!! .
ويختم المقال بأن ” من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تصبح قطباً سيادياً متعدد الأقطاب ” .
يقول ألكسندر دوغين :” الآن ، بعد فترة من الواقعية السياسية التي شهدناها في ظل حكم ترامب ، نعود إلى الجيوسياسية الكلاسيكية… . من الواضح أن من يقفون وراء ” جو بايدن ” وإدارته هم مجموعة من المحافظين الجدد الذين ينظرون إلى الواقع من منظور جيوسياسي كلاسيكي، وبالتالي ، تتمركز قوة بحرية تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب والناتو ومعسكر التعاون الأطلسي، وفي المقابل ، ثمة قوة بحرية برية تمثلها روسيا وعقب انهيار الإتحاد السوفييتي حققت القوة البحرية انتصارا ساحقاً على القوة البرية ، والكثير من الأراضي المركزية التي كانت تابعة للقوة البرية أضحت في قبضة القوة البحرية ، وهذا يعكس توسع الناتو نحو الشرق وشيئا فشيئا ضم الناتو أي القوة البحرية الغربية بلدان أوروبا الشرقية، وبدأ كذلك بضم البلدان التي كانت تابعة للإتحاد السوفييتي، ويجسد بايدن شكل من أشكال المعاناة للعودة الى نظام الأحادية القطبية فيحاول هو وفريقه الرجوع بالزمن إلى التسعينات إلى نظام الأحادية القطبية لإنقاذ العولمة، والعودة إلى عهد ” يلتسين ” عندما كانت روسيا عاجزة تماما عن انجاز التزماتها الجيوسياسية، وقد مثل ذلك صدمة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، بيد أنهم يسيئون فهم روسيا الحديثة، فهم لا يدركون معدنها تحت حكم ” بوتين ” ، قال ” بوتين ” بوضوح أنه يعتبر أوكرانيا نطاق مسؤولية روسيا، هنا تكمن مصلحة روسيا ورغبتها الجيوسياسية، ونحن لا نصر على ضم الأراضي ، لكننا نحث على عدم وجود الناتو على الأراضي الأوكرانية وكذلك في جورجيا، هذا خط أحمر بالنسبة ل بوتين ، وخط أحمر بالنسبة إلى الجغرافيا السياسية الأوراسية، والولايات المتحدة تحت حكم بايدن ومن خلال هذا التعاون الأطلسي تحاول تخطي هذا الخط الأحمر ، وتسعى بأي ثمن لإنقاذ نظام الأحادية القطبية، حيث يتمتع القطبان الجديدان( روسيا والصين ) بتأثير كبير ، ويسهمان في تعددية الأقطاب.
هل رسمت روسيا اليوم مسارا ثابتاً لتحقيق ذلك الهدف ؟
يقول دوغين: لقد خسرنا الإتحاد السوفييتي وأوكرانيا عندما كنا في أضعف حالاتنا، لكننا الآن في وضع مختلف تماما ، ويعود الفضل إلى إصلاحات بوتين الوطنية ..
بتنا اليوم أقوى بكثير من فترة التسعينات ونحيي مكانتنا كطرف فاعل في الشؤون الجيوسياسية، وفي رأيي قد يُضحي الغرب بأوكرانيا من أجل تدمير العلاقات بين روسيا وأوروبا الغربية ، على دول الناتو أن تدفن الخصومة وتحد من التصاعد المستمر في أوروبا الشرقية، وأن تعترف بسيادة روسيا في شبه جزيرة القرم، وهي المصدر الرئيسي للتوترات المستمرة في المنطقة .
ختاماً … .
ما تقدم غيض من فيض ، في سيرة ومسيرة فيلسوف روسي معاصر ، ذهب ذات مرة إلى أن:
” العالم أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى ….”
فهل تتحقق نبوءته إذا تصاعدت الأزمة الأوكرانية من مواجهة في الزحام بين روسيا وأوكرانيا الى احتكاك في الظلام بين موسكو والناتو ؟؟
بقلم: فاتن الحوسني