ثمة ظاهرة متفشية في عموم ثقافاتنا العربية، وهي الانفصال بين الشعار والواقع، حيث تتراكم الشعارات التي نطلقها في حقل الثقافة من دون أن يتحقق منها الكثير في الواقع، ومن دون أن يتمكن الفعل الثقافي من تحويل الشعارات والأهداف إلى وقائع، ما يجعل من ثقافتنا في إطارها العام ثقافة شعاراتية تقوم على المناسبات، وليس على الفعل التراكمي الذي يحقق قفزات مهمة وواضحة.
وفي مجال ثقافة الطفل، يكفي أن ننظر إلى الواقع العربي لندرك بأن كل الفعل الثقافي الذي تمّ خلال العقود الماضية في مجال الطفل لم يحقق الكثير، بل أن واقع الطفل العربي لا يجعل من التفاؤل سيد الموقف، وهو ما يدفعنا إلى طرح العديد من الأسئلة، ومنها: أين الخلل؟ ولِمَ فشل المثقفون والمؤسسات الثقافية والخطط الاستراتيجية في إنجاز جسور حقيقية تربط بين الثقافة وبين الفئات العمرية التي تنتمي لعالم الطفولة؟.
ما هو أكثر إيلاماً أننا لا نملك إحصائيات دقيقة تهتم بما يتم إنجازه في مجال ثقافة الطفل، كما تندر الدراسات التي تهتم بتلك الثقافة، والتي لا غنى عنها للمشتغلين في الحقول المرتبطة بثقافة الطفل، مثل التعليم، وتطوير الابتكار، والفنون، والآداب، وصولاً إلى ثقافة المواطنة باعتبار أن ترسيخها ضروري لبناء منظومة القيم لدى الأطفال بوصفهم مواطنين وليسوا مجرد أفراد قاصرين.
إننا نواجه اليوم عالماً بالغ التعقيد، وتزداد تحديات المستقبل بالنسبة للشعوب العربية كافة، وتعود بعض الأفكار المتأخرة في ثقافتنا للظهور، وتصبح المصاعب أكثر من ذي قبل، ويبدو الفعل الثقافي العربي برمته بحاجة إلى إعادة مساءلة، فكيف إذن بثقافة الطفل التي ستكون المسؤولة عن خيارات الأجيال الجديدة؟، وماذا نقدّم لأطفال اليوم كي يكونوا قادرين على مواجهة متطلبات الوجود والمشاركة في صناعة المشترك الإنساني؟.
إن الانفصال بين الشعار والواقع في تطوير ثقافة الطفل يعود في الجزء الأكبر منه إلى الانفصال الحاصل بين المؤسسات المعنية بالطفل بشكلٍ عام، وبين المؤسسات المعنية بثقافته على وجه الخصوص، فنحن لا نجد ارتباطاً حقيقياً بين المؤسسات التعليمية والمؤسسات البحثية، هذا إن وجدت مؤسسات بحثية خاصة بثقافة الطفل، كما أننا لا نجد ارتباطاً حقيقياً بين المؤسسات الأكاديمية من مثل علم الاجتماع وعلم النفس وبين المؤسسات التعليمية المتخصصة بالأطفال، ولا نجد همزة وصل بين المؤسسات الثقافية وعوالم الطفل، أو بين كليات الفنون والأطفال، ولا نجد اهتماماً إعلامياً حقيقياً وفاعلاً مع ثقافة الطفل.
وإذا انتقلنا إلى مستوى آخر، فإنه بات من المعلوم بأن ثقافة الإبداع هي ثقافة قائمة على السؤال والمشاركة، ومن هنا فإنه لا يمكن لطفل ما زال يتلقى المعلومات عن طريق التلقين أن يكون طفلاً مبدعاً، ولا يمكن لطفل لم يتعلم كيف يشارك في صناعة الثقافة أن يكون للثقافة مكانة مهمة لديه في المستقبل، فما الحال إذن ونحن نواجه تحديات الانتقال إلى مجتمع المعرفة، وهو مجتمع قائم في كل مناحيه على الابتكار؟
إن العالم المتقدم يسير بخطوات ثابتة نحو مجتمعات المعرفة، وتزداد المكانة فيه للبنى التي تهتم بثقافة الابتكار لدى الأطفال، وهو ما انعكس في البنى التعليمية والثقافية والفنية لتلك المجتمعات المتقدمة، وبالفعل فقد ازدادت الهوة بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة، وهو ما يجب أن يدفعنا إلى التوقف عن حالة الانفصال بين الشعارات والعمل، والانتقال إلى الفعل الجدي في ثقافة الطفل التي يمكن أن تشكل إحدى حصاناتنا المطلوبة لوقف الهوّة بين مجتمعاتنا وبين والمجتمعات المتقدمة، وهو ما يتطلب الكثير من الجرأة في عموم تفكيرنا، وفي استراتيجياتنا، وفي نظرتنا إلى أنفسنا.
إن ثقافة الطفل هي أكبر من مجرد مناسبات نحتفي فيها بتلك الثقافة، بل هي منظومة متكاملة، ويحتاج العمل فيها إلى فكر ومؤسسات وإحصائيات وإعلام ومتابعة ونقد للممارسة، والتوقف عن الارتجال، والانتقال إلى العمل المنظم، فالنهضة في ثقافة طفل اليوم تعني نهضة مستقبل مجتمعاتنا وأوطاننا.
محمد حمدان بن جرش
كاتب وباحث إماراتي
binjarshm@yahoo.com