نظمت مكتبة الإسكندرية اليوم حوارًا مفتوحًا تحت عنوان “الطهطاوي والقرن الحادي والعشرون”، بحضور الدكتور أحمد زكريا الشلق؛ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المتفرغ في كلية الآداب بجامعة عين شمس، والدكتور أنور مغيث؛ أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان، والدكتورة مرفت أسعد عطا الله؛ أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية التربية بجامعة الإسكندرية، والدكتور ماجد الصعيدي، أستاذ الأدب والنقد بكلية الألسن جامعة عين شمس، وبمشاركة الدكتور عماد أبو غازي؛ وزير الثقافة الأسبق وأستاذ الوثائق العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
دارت محاور الحوار الذي أدارته السفيرة فاطمة الزهراء عتمان مستشار مدير المكتبة، حول الرسالة التنويرية الجليلة التي حملها الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي، معلم الأمة ورائد مسيرة التجديد والاستنارة في الفكر المصري الحديث، وهي الرسالة التاريخية التي تمثل إلى اليوم نموذجًا رائدًا بالنسبة لأجيالنا الجديدة، ودعوة للتأمل والدرس، خاصة في تلك الآونة التي تشهد فيها مصر مشروعًا نهضويًا شاملاً يمثل فيه بناء الوعي الجديد للإنسان المصري الهدف والمبتغى، وتعد فيه النهضة العلمية والارتقاء المعرفي والثقافي الأساس والركيزة.
وتحدثت الدكتورة مرفت أسعد عطا الله، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية التربية جامعة الإسكندرية، عن محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة، الذي بدأ في أول حكمه العمل على تثبيت دعائم دولته الحديثه من خلال ثلاث دعائم هي “جيش وطني قوي، إنشاء مدارس أوجدت رأي عام مثقف، وإيفاد بعثات طلابية لدول أوروبا بهدف التخصص في مختلف فروع المعرفة”، وبعودة تلك البعثات الطلابية من الخارج في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأت حركة الاستنارة تجد طريقها في مصر وعلى رأس تلك الرموز كان رفاعة الطهطاوي.
وعن نشأته قالت إن الطهطاوي ولد عام 1801 في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، وهو ينتمي إلى أسرة عريقة نسبا، إذ يرجع نسب والده إلى الخليفة علي بن أبي طالب، ووالدته يرجع نسبها إلى قبيلة الخزرج من الأنصار، وفي عام 1817 بدأت المرحلة الأولى في حياة الطهطاوي العملية عند التحاقه بالأزهر الشريف للدراسة، وهناك تبناه الشيخ حسن العطار، الذي كان يشغل منصب شيخ الأزهر آنذاك، وكان من أشهر وأكبر علماء عصره على الإطلاق خاصة بعد أن أتيحت له فرصة الاحتكاك بعلماء الحملة الفرنسية أثناء وجودها في مصر.
وتابعت أن الشيخ حسن العطار كان رجلًا ثائرًا ويرى ضرورة التجديد والتغيير ولكنه كان يعلم تمامًا أن الأزهر من الصعب أن يكون وقتها هو الأداة للتغيير، فقرر أن يتبنى كوكبة من الطلاب النابغين ليكونوا بداية التغيير في المستقبل، وكان الطهطاوي على رأس تلك الكوكبة، حيث أظهر الأخير نبوغًا غير مسبوق خلال فترة دراسته بالأزهر، حتى تخرج عام 1822 وعين أستاذًا لمدة عامين حتى سنة 1824 وأثبت جدارة لا تقل عن سابقتها.
وأشارت إلى أن المرحلة الأهم والأبرز في حياة رفاعة الطهطاوي بدأت عام 1826 عندما رشحه الشيخ حسن العطار إلى والي مصر محمد علي، ليشارك في البعثة الطلابية المتجهة إلى فرنسا ليكون إمامًا للبعثة وتقديم الإرشاد والموعظة، إلا أن الطهطاوي قرر أن ينضم إلى البعثة كدارس وأن لا يقتصر سفره على كونه إماما فقط، وبمجرد وصول البعثة إلى فرنسا بدأ تعلم اللغة الفرنسية حتى أنه أجاد التهجي في 30 يوما فقط، وبعدها أصدر والي مصر قرارًا بضم الطهطاوي إلى البعثة كطالب على أن يتخصص في الترجمة، لأنه يمتلك الثقافة والمرجعية الأزهرية إلى جانب إجادته تعلم اللغة الأجنبية، واستمر في التعلم حتى تمكن في خلال سنة و8 أشهر من ترجمة كتابين من الفرنسية للعربية وأرسلها لمصر للطباعة ونشر الثقافة في بلاده.
بدوره تحدث الدكتور أحمد زكريا الشلق؛ أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المتفرغ في كلية الآداب بجامعة عين شمس، عن دور الطهطاوي في البناء السياسي للدولة الحديثة قائلًا إن الطهطاوي قرأ الكثير من المؤلفات التي تدور حول القوانين والتشريعات والسياسة، وظهر ذلك واضحًا في اهتماماته عندما كتب تخليص “الإبريز في تلخيص باريز”، والذي كان يتحدث عن الثورة الفرنسية آنذاك وتغيير الدستور، كما كان الكتاب يروي تجربة شاب يحكي ما رآه في أوروبا.
وأضاف أن الطهطاوي تعرض للنفي في السودان من الخديوي عباس حلمي الأول، والذي كان انقلب على كل المشروعات الإصلاحية التي أقامها جده محمد علي، مشيرًا إلى أن الطهطاوي عاد مرة أخرى لمصر وحاول أن يستعيد كثيرًا من مكانته فتولي رئاسة مجلس المعارف الأعلى ورئاسة تحرير مجلة روضة المدارس، المتخصصة في العلوم والثقافة وتحتوي على العديد من المقالات السياسية.
وتابع أن الطهطاوي أبدى اهتمامًا كبيرًا في دراسة سير الملوك والحكام، وتحمس لهذا الأمر محمد علي باشا الذي كان مهتما أيضا بدراسة حكام وقادة العالم آنذاك، كما اهتم الطهطاوي أيضا بترجمة الدساتير والقوانين، فترجم الدستور الفرنسي لعام 1818 الذي ثار الفرنسيون فيه على ملكهم، ثم تعديله في عام 1830، وقدم أيضا مقارنات بين الدستورين.
وأوضح أن رفاعة الطهطاوي قدم أيضًا مقارنة بين الشريعة الإسلامية والتشريع الفرنسي، واهتم بترجمة النظم وما يتصل بها من شئون الإدارة والحكم، ودرس أعمال فلاسفة الثورة الفرنسية وبعض آثار حركة التنوير الأوروبية، كما أضاف إلى رصيده في التراث الإسلامي ما جمعه من مقارنات بين الثقافتين.
كما تحدث الدكتور أنور مغيث؛ أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان، عن دور الطهطاوي في بناء الوعي الحديث، قائلًا إن الطهطاوي وحده كان صاحب الخطوات الأولى في اتجاهات كثيرة ثم صار على خطاه الكثيرون، وأول ما أضافه إلى ثقافتنا المعاصرة كانت الترجمة حيث لم يكن هناك أعمال مترجمة قبل ذلك، وأيضًا اهتم بالفلسفة والمنطق حيث ظلت المنطقة العربية لمدة 7 قرون بعيدة عن الأعمال الفلسفية، وكان الطهطاوي من أوائل من تحدثوا عن الفلاسفة القدامى، ليكون أول من أدخل الفلسفة إلى ثقافتنا المعاصرة وكان أول مصري يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة وكذلك الحضارات القديمة مثل البابلية، ليضع اللبنة الأولى للوعي المصري الحديث بالتاريخ القديم، كما كان أول ينادي بأهمية تعليم البنات.
من ناحيته قال الدكتور ماجد الصعيدي، أستاذ الأدب والنقد بكلية الألسن جامعة عين شمس، إن الطهطاوي مؤسس لكثير من التيارات والمجالات المعرفية، وأسس مدرسة الألسن ووضع أسسا منهجية لتدريس الترجمة في هذه المدرسة، ويعد المترجم الأول في مصر الحديثة.
وأشار إلى أن الطهطاوي كان يؤمن بأن الترجمة مفتاح التعرف على ثقافات، مبينًا أن نشاط الترجمة دائمًا ما ارتبط بحركة التأليف، وأن المجتمع القادر على إنتاج المعرفة يزداد إقباله على الترجمة لتكتمل المنظومة المعرفية والتواصل مع الثقافات الأخرى ، مؤكدًا أن رفاعة الطهطاوي كان له تجربة رائدة وثرية في نقل وترجمة العلوم والثقافات إلى اللغة العربية، وتمثلت رؤيته في العمل على مستويين هما إنشاء المؤسسات الحديثة التي تنتج المعرفة، ونشر الوعي المعرفي بين المجتمع المصرية وإتاحة المعرفة بين أفراده، وكان له الدور في تأسيس الوسائط المعرفية الحديثة مثل المطبوعات الدورية إلى جانب بناء المؤسسات الحديثة، وكذلك عمل من خلال مدرسة الألسن على تخريج ما يسمى بالمترجم المتخصص في شتى المجالات العلمية والأدبية.
وقال الدكتور عماد أبو غازي، أستاذ الوثائق العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وزير الثقافة الأسبق، إن الطهطاوي كان إصلاحيًا من الطراز الأول، وكان يسعى للتغيير بمنهج إصلاحي وليس منهج ثوري، واختار طريق العمل من خلال مؤسسات الدولة، وكان يرى في ذلك إمكانية لتحقيق مشروعه.
وعن رؤية الطهطاوي للحداثة وعلاقتها بالتراث، أوضح أبو غازي، أنه كان يحاول أخد موقفًا توفيقيًا بين الفكر الحديث والانتقال بمجتمعه للصورة التي يتمناها وبين التراث الديني والعودة إلى الثقافة التي ينتمي إليها، كما ساهم منذ عودته في تأسيس أحد أركان الحداثة الإنسانية، من خلال إنشاء المتحف القومي حيث كانت النواة الأولى للمتاحف في مصر في مدرسة الألسن بفضل الطهطاوي، بعد أن طرح على محمدعلي فكرة إنشاء متحف يضم التراث المصري الإنساني، لترسخ أحد أفكار الانتماء الوطني بين الناس.