ما أروعها من لحظات! يناديك فتلبي النداء ، وما أجملها من وقفات ! تصدح فيها القلوب ، ابتسامات الرضى ترتسم على الوجوه ، شغف الشوق يجذبك للقاء من يراك ولا تراه ، رحلة العمر تسمى ، كنت واحدا ممن اختارك من سابع سماء لتكون في لقائه ، شعور لايحسّ به إلا من عاش تلك اللحظات المفعمة بمشاعر الإيمان ، وما أعظمها من تلبية ! فيها كل مظاهر التذلل والخضوع للواحد القهّار.
لبيك وحّدت القلوب ………. لبيك غفّار الذنوب
لبيك ملء الون يا ………. مجلي سحابات الكروب
أيام الحج من أجمل أيام السنة ، بل وأكثرها بركة ورجوعاً إلى الله ، يصحو العاصي من غفوته ، يبكي المقصّر من تقصيره ، ويدنو البعيد من ربه ، فيها تحط الذنوب ، وترفع الأيادي للمناجاة والدعاء والاستغفار ، يرتفع التكبير والتهليل ، وكل العيون معلقة على ستائر الكعبة ، تعلنها صريحة حرباً على الشيطان ، والشيطان يسكن أرواحنا دون استئذان ، والأمل كلّ الأمل في سعة غفرانه ، وتجاوز زلاتنا ، خارجين من هذه الرحلة المباركة كما ولدتنا أمهاتنا .
في هذه الأيام يبدأ الحاج تجهيز نفسه ليكون في رحلة من أقدس الرحلات على وجه الأرض ، كما تتجهز العروس ليلة زفافها ، يلبس الثياب البيضاء ، يودع الأحبة والأقارب والأصدقاء ، فهو ذاهب تلبية لدعوة إلهية ، حاملاً في مكنون نفسه أملاً بأن يرضى الله عنه ويغفر ذنوبه ويكون من المقبولين عنده ، طالباً من الجميع مسامحته ، وطي صفحات الألم و الحزن ، متعهداً أن يسلك طريقاً غير الذي سلكه ، ويرتضي حياة غير الحياة التي ارتضاها من قبل ، هو سيعود من جديد ليس فيه إلا اسمه .
هذه الصورة الإيمانية الممتلئة بمشاعر الصدق والرضى من الله بكل ماكتب علينا ، خطفتها يد الأقدار لترسم لوحة لتلك الرحلة قاتمة سوداء ، نودع أحبة لنا هنا وهناك تتخطفهم المنايا ، وتصبح الرحلة مؤجلة لوقت يختاره الله عزّ وجلّ.
لم تعد العيون تتكحل برؤية الكعبة المشرفة ، ولا اللقاء مع الحبيب المصطفى في المدينة المنوّرة ، ولا جبل عرفة الذي انطلقت منه البشرية جمعاء ، ولا الشرب من ماء زمزم ، هل تعود تلك الأيام ؟ ويعود للرحلة بريقها وألقها ، وتعود للنفوس طيبتها ويرفع عن الجميع البلاء الذي عمّ الكون كله .
علمتني الرحلة أن أكون ذا قلب صاف خال من الضغينة والحقد والحسد ، علمتني الرحلة ألا ألبس الأبيض وقلبي أسود ، أن أرفع الهمّ عن المهموم ، أن أخرج من دائرة الاعتزاز بالنفس إلى الاعتزاز بالأخلاق التي ارتضاها لنا ديننا الحنيف ، تعلمت على أن أكون بلسماً للجراح ، بعيداً عن أذية الآخرين ، تعلمت من الرحلة رفيقاً للطيبين ، مناصراً للضعفاء ، لدوداً على كل ظالم .
كبّروا وهللوا في هذه الأيام الجليلة ، علّموا أولادكم الصدق ومجانبة الكذب ، علّموهم التسامح لا الحقد ، عودوهم على أن يكونوا شاكرين لنعم الله لا ناكرين لها ، مطعين لآبائهم لا عاقين لهم ، تلك مدرسة الحج واأيامها الفاضلة.
بقلم: د. آمنة الظنحاني