أشرقت أنوار الحضارة الإسلامية على البشرية، لتسمو بالروح والعقل، وتعلي قيمة العلم والمعرفة، وتنشر عبق التسامح والوئام، وانبرى العلماء لتعزيز القيم الإيجابية في المجتمعات، عبر التدريس والتصنيف والخطب والوعظ وغير ذلك، وكان من أبرزهم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، الذي تميز بسيرته المشرقة، وأخلاقه الرفيعة، واجتهاده وتفانيه في طلب العلم، وذكائه وبراعته، حتى أصبح نموذجاً يحتذى به في هذا الباب.
ومن أشهر الآثار التي تركها هذا الإمام وتناقلته الأجيال كتاب «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» المشهور بـ«صحيح البخاري»، الذي قضى سنين في جمع أحاديثه، بعناية فائقة وشروط دقيقة، وعرضه على كبار المحدثين المختصين بهذا المجال، الذين أجمعوا على جودة كتابه، وصحة ما فيه، وأجمعت الأمة على ذلك جيلاً بعد جيل.
ومن القيم المشرقة التي اشتمل عليها «صحيح البخاري» في أبواب كثيرة قيم التسامح والتعايش، فعلى مستوى السيرة النبوية جلَّى الإمام البخاري جوانب نبوية عدة تتعلق بالصفح والعفو والتجاوز وعدم الانتقام، كحديث إيذاء أهل الطائف للنبي، صلى الله عليه وسلم، وتجاوزه عنهم، وحديث إيذاء قومه له حتى أنهم أدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، وحديث تقديم أهل خيبر شاة مسمومة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتركه الانتقام منهم، قال شرح البخاري تعليقاً على هذا الحديث: «كان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه تواضعاً لله، ولا يقتل أحداً من المنافقين المناصبين له بالعداوة، لأنه كان على خلق عظيم من الصفح والإغضاء والصبر».
وكذلك رسخ الإمام البخاري في صحيحه، الحقوق والواجبات والآداب التي تعزز التسامح، ومن أهمها حق الحياة، باعتباره حقاً أصيلاً مكفولاً للجميع، بغض النظر عن أديانهم وأجناسهم وألوانهم، والاعتداء عليه من أشد الجرائم إثماً، وقد أورد الإمام البخاري أحاديث عدة في هذا الشأن تقرر عصمة النفس الإنسانية، منها حديث: «اجتنبوا السبع الموبقات» أي الذنوب العظام المهلكات، ومنها قتل النفس، وحديث: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس»، وحديث: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً»، كما عزز ذلك بآثار عن الصحابة تبين فداحة الاعتداء على النفس الإنسانية، منها قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله»، وإمعاناً في التأكيد على صيانة دماء غير المسلمين وحقهم الأصيل في الحياة عقد باباً خاصاً بذلك، وأورد تحته حديث: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً»، كل ذلك تقرير وتأكيد لهذا الحق الأصيل الذي هو أهم عمود من أعمدة التسامح، كما رسخ الإمام البخاري احترام الحقوق الأخرى، ومنها الأموال والأعراض، وتحريم الاعتداء عليها.
وكذلك رسخ البخاري قيم التسامح على مستوى العلاقات الإنسانية المتنوعة، مثل المعاملات التجارية والاقتصادية، والتي تقوم على مبادئ راقية، تراعي الحقوق، وترسخ التسامح في أبهى تجلياته، حتى تجعله سبباً لنيل رحمة الله تعالى، كما في الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، ليكون التسامح قيمة أصيلة لدى التجار والمتعاملين والدائنين والمدينين وغيرهم، فتحاط الأسواق بسياج أخلاقي منيع من التسامح المتبادل.
وكذلك على مستوى التعامل الاجتماعي، كصلة الأرحام، وعيادة المرضى، وتبادل الهدايا، والمخاطبة بالقول الجميل، رسخ الإمام البخاري كل ذلك، وأكد في أبواب عدة أن اختلاف الدين ليس مانعاً من التحلي بالتعامل الاجتماعي الراقي، بل هو داخل في مكارم الأخلاق، التي جاء الإسلام لتعزيزها وتكميلها. وقيم التسامح التي رسخها الإمام البخاري في ميادين الآداب والسلوكيات العامة كثيرة جداً لا يتسع لها هذا المقال.
وكذلك رسخ الإمام البخاري التسامح على مستوى العلاقات الدولية، وما يتطلبه ذلك من إبرام معاهدات الصلح والسلام، ووجوب الوفاء بذلك، وتحريم الغدر والخيانة.
ومن أهم جوانب التسامح التي رسخها الإمام البخاري تعزيز ذلك على مستوى التدين الوسطي الرشيد، بالتأكيد على قيم الاعتدال والتيسير والتحذير من الغلو والتشدد والإرهاب.
إن قيم التسامح في صحيح البخاري كثيرة جداً، وهي شمس تشرق أنوارها لتنعكس على أرض الواقع أخلاقاً حميدة وسلوكيات رفيعة وقيماً حضارية مستنيرة.
بقلم: أحمد محمد الشحي