الاحساء – زهير بن جمعه الغزال
همة عالية توارثتها الأجيال، إتقان أوصلهم إلى القمة، من خلال برامج تدريبية وتطويرية وعمل مؤسساتي عالي الجودة، خلال (90) عامًا صنعت الهمة أياد تلتف بالحرير، وتقاس بوزنها ذهبًا، هذا ما يتذكره زائر مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة المشرفة، عندما يشاهد رجالًا أمضوا أكثر من ثلاثة عقود مع الخيوط الحريرية والقطنية وإبر الخياطة، فن توارثته الأجيال جيلًا بعد جيل بعد أن شرعت المملكة العربية السعودية أبواب الصناعة لكسوة الكعبة عبر دار خاصة بمحلة أجياد أمام دار وزارة المالية العمومية بمكة المكرمة في عام (1346هـ).
حيث كرست الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الهمة وعشق القمة وتحدي الصعاب، للعاملين لديها بمجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة، والذين يصل عددهم إلى (218) شخصًا، من خلال برامج تدريبية ودورات تأهيلية مكثفة، نتج عنها العديد من الإنجازات على أيد مهرة.
هؤلاء الرجال بدأت قصتهم شغفًا وانتهت هيامًا، شرفهم الله -عز وجل- بما يحلم به كل مسلم، العمل بخياطة كسوة الكعبة المشرفة وفكها وتركيبها يوم استبدال كسوة الكعبة الذي يوافق كل عام اليوم التاسع من ذي الحجة، فحول هذا التشريف وعظم العمل يقول فهد عودة العويضي، أحد العاملين في خياطة ثوب الكعبة المشرفة بمجمع الكسوة: أمضيت (٣٦ سنة) وأنا أعمل بالمجمع، كنت حين أزور المسجد الحرام يستوقفني كثيرًا ثوب الكعبة المشرفة، وأتساءل كيف يتم خياطته وتركيبه؟ ولكني لا أجد أي جواب، وفي عام (١٤٠٦هـ) حضرت إلى الحرم المكي وقت تبديل الثوب وشاهدت مراحل الفك والتركيب، وبعد الانتهاء منها تقدمت لأحد العاملين حينها في تبديل الثوب، وطرحت عليه الكثير من الأسئلة وكان يجيب عن كل سؤال بدون تردد فمن بين الأسئلة التي وجهتها له عن المكان الذي تصنع فيه الكسوة وكيف يمكن المشاركة في هذا العمل؟ وجهني بالذهاب إلى الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومقابلة المسؤولين والتقدم بطلب توظيف، وفي اليوم التالي توجهت إلى الرئاسة العامة وكانت العملية سهلة جدًا، رحبوا بي، وكان الاتفاق معهم على التدريب مدة ستة أشهر فإذا اجتزت الدورة سوف أكون أحد العاملين بالمصنع، وفي حال عدم الاجتياز سوف تعاد لي الدورة، وفي حالة التعثر للمرة الثانية لن يتم قبولي للعمل، دخلت الدورة وشغفي وحبي لهذا العمل جعلني اجتاز الدورة التدريبية خلال شهر واحد – ولله الحمد – فبعد الشهر الأول تم توظيفي بالمصنع، وبدأت العمل مع زملائي الذين وجدت منهم تعاونًا كبيرًا، وكان العمل جميلًا وممتعًا لأنه في أطهر وأفضل مكان وهذا يولد طاقة إيجابية، جعلتني أعمل طوال هذه المدة في المجمع، وأمثل المجمع في كثير من المعارض الداخلية والخارجية والتي منها دبي وطاجكستان وإندونيسيا.
وحول الشباب وتمكينهم من العمل داخل المجمع قال العويضي: لدينا داخل المصنع عدد من الشباب يجيدون فن الخياطة والتطريز، ولديهم شغف كبير للعمل في هذا المكان، وآخرهم (٢٥) شابًا تم قبولهم للعمل بالمجمع بعد أن تم تدريبهم مدة ستة أشهر في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وثلاثة أشهر بالمجمع، نعمل خلالها على تدريبهم في عملية تبديل الثوب ونجعلهم يرافقون أصحاب الخبرة لمساعدتهم ومعرفة آلية العمل.
وذكر العويضي أنه شارك في تبديل ثوب الكعبة (٢٥ سنة)، وأن عدد الأشخاص الذين يقومون بتبديل الثوب (116) شخصًا (١٩) منهم فوق سطح الكعبة، والبقية موزعين حول الكعبة.
وقال العويضي سهلت دخول كثير من الأصدقاء للعمل بالمصنع، وزوجتي وابني وبناتي زاروا المصنع وشاهدوني وأنا أعمل، ويحتفظون بجميع المواد الإعلامية المرئية والمطبوعة التي أظهر فيها وأنا داخل المصنع أو أوقات تبديل ثوب الكعبة المشرفة، كنت في مراحل شبابي أنهي لفظ الجلالة كاملًا خلال (6) ساعات واليوم يصل إنتاجي إلى؟ حرف فالخبرة ساعدتني على سرعة الإنتاج، وأتذكر في أحد الأيام أنا وزملائي خلال ثلاث ساعات قمنا بخياطة أحد القناديل وهو (يا حي يا قيوم).
العويضي يقوم أيضا بالإشراف، ومتابعة زملائه، والمشاركة في تغيير ثوب الكعبة، ويقول أن التبديل يحتاج إلى تركيز وجهد عالٍ لأنهم أصبحوا يحققون أرقامًا قياسية في وقت تبديل الثوب ويحاسبون على جودة العمل، وفي العام قبل الماضي (١٤٣٩هـ) تم تبديل الثوب في مدة زمنية تقارب الثلاث ساعات لإكمال استبدال الكسوة، في عملية شارك فيها 160 صانعا وفنيا.
فيما يقول غازي عمر باقليد: عملت في مجمع الكسوة منذ عام (١٤٠٣هـ) بدأت في العمل حينها كان يدويًا بالورق والطباشير كنا نطبع الورق ونحدد الحروف بالطباشير ثم نمشي على الرسم بالخيط ونعمل الحشو، فتطور العمل إلى أن أصبح آليًا، الماكينات ترسم الحروف والحشو ونحن نقوم بالتطريز، وفي السنوات الأخيرة شهد المجمع نقلات نوعية في الآليات والكوادر والتدريب والتطوير، فقديما كنا نشعر بألم في الصدر والظهر والأذرع، أما الأن فالعكس بسبب تطور الآليات، وبسبب الخبرة العالية لدي أنتهي من حرف خلال اليوم.
وعن عائلته قال باقليد: عائلتي تفتخر بعملي هذا، وأبنائي جميعهم يريدون أن يعملوا بنفس المهنة لما لها من فضل عظيم، وأبنائي الأربعة زاروا المجمع أكثر من مرة، وعديلي يعمل معي في المجمع وهو من الشباب الجدد، وأصبح من المتميزين في عمله.
أما صالح فريج الردادي والذي يعمل بالمجمع منذ (٣٤ سنة) يقول: بدأت مطرزًا وعملت في التطريز (٣٣ سنة) ومنذ عام تحول عملي على ماكينة شلل القطن لتفريغها على المكر والشلل يستخدم لتقطين الحرف، فاليوم مع تطور الآليات داخل المجمع تحول عمل الشلل وتعبئة مكر الخياطة من العمل اليدوي إلى الآلي.
وعن دور الشباب بالمجمع قال: الشباب الجديد طموح ومتحمس ويملك التعليم الكافي، فجميع من انضموا للمجمع متميزين ولديهم شغف للعمل.
عملت المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز على صناعة كسوة الكعبة، والإشراف على تغييرها سنويا.
حيث كان هذا الاهتمام منذ عهد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –رحمه الله- إلى هذا اليوم وكانت الكسوة قد مرت بمراحل عدة منذ فجر التاريخ وقد اهتمت المملكة بمقدساتها وعظمتها واعتنت بها أيما عناية .
بداية كسوة الكعبة في المملكة :
أمر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن – رحمه الله – بإنشاء أول دار لكسوة الكعبة المشرفة بجوار المسجد الحرام في “أجياد” وكانت هذه الدار أول مؤسسة خُصصت لحياكة كسوة الكعبة في المملكة، قبل أن ينتقل مصنع كسوة الكعبة إلى حي “جرول” في العام 1383هـ.
انتقل مصنع كسوة الكعبة في يوم السبت السابع من ربيع الآخر سنة 1397 من الهجرة إلى مبناه الجديد بأم الجود , وقد تم تجهيزه بأحدث الماكينات المتطورة في الصناعة , وظلت حتى حينه تنتج حلة في أبهى صورها فاقت صناعتها كل من سبقوا إليها ومشهدها اليوم خير برهان.
مراحل كسوة الكعبة المشرفة :
قسم المصبغة :
يتولى قسم المصبغة مهمة إزالة المادة العالقة بخيوط الحرير( السريسين ) وذلك بواسطة أحواض ساخنة ومواد كيماوية خاصة مخلوطة وموزونة بنسب مئوية معينة, وصولاً إلى ضمان ثبات درجة اللون المطلوب، إلى غسل البطانة القطنية الخاصة لكسوة الكعبة المشرفة ثم بعد ذلك يتم صباغة الحرير باللون الأسود بالنسبة للثوب الخارجي للكعبة أو اللون الأخضر للستارة الداخلية , علماً بأن الكمية المستهلكة من الحرير الطبيعي للكسوة ( 670 ) كيلوغرام.
قسم المختبر:
يقوم هذا القسم بإجراء الاختبارات المتنوعة للخيوط الحريرية والقطنية من أجل التأكد من مطابقتها للمواصفات القياسية المطلوبة من حيث قوة شد الخيوط الحريرية ومقاومتها لعوامل التعرية إضافة إلى عمل بعض الأبحاث والتجارب اللازمة لذلك.
قسم النسيج اليدوي والآلي :
النسيج اليدوي :
لايزال هذا القسم يحافظ على قيمته المعروفة عالمياً , لكنه بات الآن بمنأى عن الأقسام الإنتاجية الأخرى في عملية الإنتاج واكتفى بعرض تاريخه ورونقه في إطلاع الزائر عن بداية إنتاج الكسوة في العهد السعودي عن طريق الأنوال القديمة “المناسج الخشبية” مع المحافظة حالياً على الصناعة اليدوية التقليدية الممثلة في تفريغ مكرات الخيوط القطنية وتحويلها إلى شلل لسهولة صبغها باللون المطلوب, ومن ثم إعادة لفها يدوياً على مكرات لاستخدامها في حشوات الآيات القرآنية المقصبة والزخارف الإسلامية الفضية والذهبية.
النسيج الآلي:
بأحدث الماكينات العالمية المتطورة تدور عجلة الإنتاج في هذا القسم الذي يؤدي دوراً مهمًا في نسج كسوة الكعبة المعظمة الداخلية والخارجية , بنظام الجاكارد الذي يحتوي على العبارات والآيات القرآنية المنسوجة , فيعمل القسم نوعين من الحرير , الحرير الأسود المنقوش بالعبارات , والحرير السادة المخصص للمذهبات من حزام الكعبة والقناديل وستارة باب الكعبة , حيث تعمل هذه الماكينات لنسج الكسوة بعدد (9.986) خيطًا للمتر الواحد في زمن قياسي, ناهيك عن البطانات القطنية للكسوة . كل ذلك يدار آلياً مما أدى إلى سرعة الإنتاج وتحسين الأداء كماً ونوعاً وشكلاً, مع انخفاض التكلفة والجهد والوقت.
قسم الطباعة :
يؤدي هذا القسم دوراً مهماً في عملية وضع الرسم الأول من حيث طباعة الآيات القرآنية والزخارف الإسلامية, ففي هذا القسم يتم أولاً تجهيز المنسج وهو عبارة عن ضلعين متقابلين من الخشب المتين ثم يشد عليهما قماشًا خامًا (للبطانة) ثم يثبت عليه قماش حرير أسود سادة غير منقوش الذي يطبع عليه حزام الكسوة وستارة باب الكعبة وكافة المطرزات .
وبعد اكتمال التثبيت يتولى العاملون طباعة الآيات القرآنية بواسطة استخدام السلك سكرين مع الحبر الأبيض والأصفر.
قسم الحزام والتطريز
يتولى قسم الحزام مهمة تطريز المذهبات والفضيات والزخارف الإسلامية, حيث تتم هذه العملية الفريدة أولاً بوضع الخيوط القطنية بكثافات مختلفة فوق الخطوط والزخارف المطبوعة على القماش الأسود ,مع الملاحظة الفنية لكيفية أصول التطريز والمطبوعات على الأقمشة المشدودة على المنسج، ثم بعد ذلك تبدأ الكوادر الفنية المهرة بعمل الغرز اللازمة والحشو والقبقبة باستخدام الأسلاك الفضية والمطلية بالذهب.
وينتج هذا القسم عمل (12 ) قنديل، وسورة الإخلاص مكررة أربع مرات توضع في أركان الكعبة, وعدد ( 16 ) قطعة لحزام الكعبة , و (6 ) قطع ما تحت الحزام بمختلفة الأحجام، إضافة إلى الستارة الخارجية لباب الكعبة ، وأكبر قطعة من جهة باب الكعبة كتب فيها صنعت بالمملكة العربية السعودية.
قسم خياطة الكسوة ) تجميع القطع (هذا القسم لا يقل أهمية عن الأقسام الأخرى، حيث يتولى عملية تجميع كل القطع من طاقات قماش الحرير بكل جنب من جوانب الكعبة الأربعة وتوصيلها ببعضها البعض، وتثبيت القطع المذهبة من حزام وقناديل على الثوب الأسود، وذلك باستخدام أحدث الماكينات العالمية الحديثة التي صنعت خصيصاً لكسوة الكعبة وخصصت لهذا الغرض، ليتكامل شكل الكسوة الخارجي كما هو ظاهر للجميع وفي شكل أخاذ بصناعة سعودية وكوادر وطنية.