لم يكن يُتصور أن عشرة أيام كافية لإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، الذي هيمن من خلاله حزب البعث في سوريا على الحكم طيلة نصف قرن ، لاسيما بعد اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 على إثر الإحتجاجات التي رافقت مرحلة الربيع العربي، إذ تُعد حالة الصراع في سوريا نموذجاً لحالات الصراع المستعصية في العالم، التي فشلت فيها الجهود السياسية و الدبلوماسية و الإجراءات العسكرية في حسم الصراع والوصول إلى السلام، مما أدى إلى تدمير مقومات القوة السورية على مختلف المستويات، فضلاً عن تعاظم المأساة الإنسانية سواء من خلال تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي داخل سوريا أو وضع اللاجئين السوريين في مختلف دول العالم.
وجاءت عملية ردع العدوان التي قادتها ” هيئة تحرير الشام ” لتمثل متغيراً نوعياً جديداً في الحالة السورية في مرحلة استثنائية شديدة التعقيد ، إذ تتصاعد فيها الإضطرابات في منطقة الشرق الأوسط نتيجة الحرب الصهيونية الغاشمة في غزة ولبنان من جهة ، فضلا عن المرحلة الإنتقالية المتمثلة بإنتظار وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني القادم من جهة أخرى ، وما يمكن أن تفصح عنه سياسة ترامب في حسم الكثير من الصراعات الدولية ومنها الحرب الروسية الأوكرانية المشتعلة منذ شباط 2022 إلى جانب الحرب الصهيونية ضد غزة ولبنان .
– انطلاق عملية ردع العدوان وإسقاط نظام الأسد :
– في الوقت الذي توجهت الأنظار صوب توقيع الهدنة بين الكيان الصهيوني ولبنان في إطار المساعي الإقليمية والدولية لتخفيف حدة التوتر في المنطقة وصولاً إلى الهدف المطلوب بتوقيع هدنة أخرى في غزة تسهم في إيقاف المجازر الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلة، انفجرت الأوضاع الأمنية في سوريا على غير المتوقع لتظل بذلك منطقة الشرق الأوسط تشهد أحداث دراماتيكية تسهم في التأثير على خارطة التوازنات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، إذ أعلنت مجموعة من فصائل المعارضة بعنوان ” إدارة العمليات العسكرية ” والتي اتضح أنها بقيادة ” هيئة تحرير الشام ” انطلاق عملية ردع العدوان في 27 تشرين الثاني وذلك بمهاجمة الفوج(46) التابع للجيش السوري النظامي في مدينة إدلب، ثم توسعت العملية لتشمل محورين وهما مدينة حلب وباقي مناطق إدلب ، وقد كان لإنسحاب الجيش السوري دور في حصول قوات المعارضة على معدات عسكرية بما فيها دبابات وصواريخ وقاذفات إلى جانب أسلحة مختلفة من المواقع العسكرية التي انسحب منها الجيش السوري، ثم انسحبت القوات النظامية من مطار حلب وجرى تسليمه لقوات سوريا الديمقراطية ( قسد ) ، ثم توالت العملية لتصل إلى ريف حماة الشمالي بعد إحكام السيطرة على مدينة حلب ، وقد أحدث الانهيار العسكري والأمني لقوات الجيش السوري النظامي ردات فعل مختلفة سواء على مستوى الوضع الميداني الداخلي إلى جانب المتغيرات الإقليمية والدولية. بالنظر لكون العملية انطلقت بعد استعادة النظام السوري السيطرة على هذه المناطق و توقف نشاط فصائل المعارضة فيها منذ العام 2020 ، وفي تطورات تقدم فصائل المعارضة أعلنت إدارة العمليات العسكرية سيطرتها على مدينة حماة وذلك في يوم الخميس 5 كانون الأول، ثم تقدمت نحو مدينة حمص ، وسيطرت على مدينتي الرستن وتلبيسة، في المقابل تحركت قوات قسد نحو مدينتي درعا و دير الزور وقد انسحب الجيش السوري من درعا لتتمكن قوات قسد من السيطرة على المنطقة التي تتواجد فيها قوات روسية ، تواصل تقدم قوات إدارة العمليات العسكرية وتم السيطرة على مدينة حماة التي جعلت الطريق نحو دمشق أسهل من أي وقت سابق .
– وفي فجر يوم الأحد الموافق 8/12/2024 أعلنت إدارة العمليات العسكرية في بيان رسمي إسقاط نظام بشار الأسد والسيطرة على العاصمة دمشق، ورافق ذلك حديث وسائل الإعلام العالمية عن مغادرة الأسد وعائلته متجهين إلى موسكو ، فيما أعلن رئيس الوزراء محمد الجلالي عبر تسجيل فيديوي بقائه داخل منزله وأنه مستعد لإجراءات تسليم السلطة لأي قيادة يختارها الشعب السوري .
منذ لحظة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، كان الشعب السوري يأمل في بناء دولة قادرة على تحقيق آماله في الحرية والاستقلال والازدهار، لكن هذا الحلم سرعان ما اصطدم بصعوبات جمة، على رأسها النزاعات الداخلية بين القوى السياسية المتناحرة. وعقب سلسلة من الانقلابات العسكرية، كان نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استلم السلطة في عام 1963 بداية لعهد جديد تميز بتوطيد الهيمنة الاستبدادية التي تجسدت في حكم حافظ الأسد، والذي استمر حتى عام 2000، ثم تولى ابنه بشار الأسد القيادة في مرحلة تشكل فيها الصراع بين القوي المتناقضة داخل سوريا وخارجها.
لكن، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في عام 2011، تحولت سوريا إلى ساحة معركة لا تُحكى فيها قصة مجرد ثورة، بل هي قصة عن شعب تمزقه الحروب، وعن أمة حاولت أن تخرج من صمتها لتواجه المأساة العظمى التي خلفها حكم مستبد. إذ تحولت الساحات التي كانت تحمل صرخات الحرية إلى ميدان للدماء والانقسامات العميقة بين أبناء الوطن، بينما شقت الحرب الأهلية طريقها لتجعل سوريا مسرحًا لتدخلات إقليمية ودولية مدمرة.
وبينما تتسارع أحداث الصراع، تغرق سوريا في دوامة من الهزائم والانتصارات الزائفة، حيث يجد النظام نفسه يواجه تحديات غير مسبوقة، من الداخل والخارج، لتبدأ النهاية الحتمية للنظام بعد 13 عامًا من الصراع الطويل.
حافظ الأسد والحكم الاستبدادي (1970 – 2000)
في عام 1970، قام حافظ الأسد بانقلاب عسكري ضد القيادة الحزبية التي كانت تسيطر على الحكم، مما مهد الطريق لوصوله إلى السلطة. حافظ الأسد حكم سوريا بقبضة حديدية حتى وفاته في عام 2000. خلال فترة حكمه، قام بتوسيع سلطاته على مؤسسات الدولة من خلال بناء جهاز أمني ضخم وفرض رقابة مشددة على المجتمع. كانت سياسته الخارجية تتسم بالتوجه القومي العربي، لا سيما في دعم القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
5. وراثة بشار الأسد للحكم (2000 – 2011)
بعد وفاة حافظ الأسد، تولى ابنه بشار الأسد الحكم في عام 2000، وهو ما أطلق عليه العديد من المراقبين بداية “عهد الإصلاحات”، حيث قام بإجراء بعض التعديلات الاقتصادية والتجديدات السياسية المحدودة، مثل السماح بفتح قنوات إعلامية مستقلة نسبيًا ورفع بعض القيود الاقتصادية. لكن، بقيت السلطة في يد العائلة الحاكمة، ومع مرور الوقت تزايدت المخاوف من تزايد التوريث السياسي، خاصة بعد تورط بشار الأسد في قمع أي مظاهر للاحتجاج السياسي. خلال هذه الفترة، كانت هناك احتجاجات في دمشق وبعض المدن الكبرى، ولكنها قوبلت بقوة أمنية قاسية.
6. الاحتجاجات السورية وحرب 2011
في 15 مارس 2011، اندلعت الاحتجاجات الشعبية في عدة مدن سورية، احتجاجًا على سياسات النظام. سرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى صراع مسلح بين القوات الحكومية والمعارضة المسلحة. التصعيد الأمني والعسكري دفع البلاد إلى حرب أهلية مدمرة، تمخضت عنها تداعيات إنسانية هائلة، بما في ذلك آلاف القتلى والمصابين، وظهور جماعات إرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفصائل إسلامية متشددة.
سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024
في 8 ديسمبر 2024، وبعد سنوات من النزاع المستمر، سقط نظام بشار الأسد نتيجة سلسلة من الهزائم العسكرية والسياسية التي تعرض لها في الفترة الأخيرة. كان هذا السقوط نتيجة لتداعيات مجموعة من العوامل، منها التغيرات السياسية في المنطقة، والتحولات الداخلية في سوريا، والضغوط المتزايدة من قوى المعارضة المسلحة التي دعمتها عدة دول إقليمية. كما أن الوضع الاقتصادي المنهار والنقمة الشعبية كان لهما دور كبير في إضعاف النظام.
باختصار، يمثل سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 نقطة تحول كبيرة في تاريخ سوريا والمنطقة بأسرها. رغم أن الوضع ما يزال غير مستقر، ويحتاج إلى سنوات من إعادة البناء والاستقرار، إلا أن ذلك قد يفتح آفاقًا جديدة أمام الشعب السوري لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتحديد مسار جديد للبلاد بعد أكثر من عقد من الحرب الدموية.
إن سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 يمثل نهاية فصول دامية طويلة من تاريخ سوريا الحديث، ولكن هذا السقوط لا يعني بالضرورة نهاية معاناة الشعب السوري ولا طي صفحة الآلام التي عاشها لسنوات طويلة. بل إن هذا السقوط يأتي بمثابة استراحة قصيرة في رحلةٍ مريرة لم تنتهِ بعد، فالشعب السوري، الذي تحمل ويلات حرب أهلية مدمرة، وعاش في ظل قمع استبدادي، يجد نفسه الآن أمام تحديات ضخمة في عملية إعادة البناء، ليس فقط للبنية التحتية التي دمرت، بل للأوطان التي تفتتت والأرواح التي تلوثت بمرارة الخيانة والفرقة.
قد يكون سقوط النظام بدايةً لعهد جديد، لكن هذا العهد لن يكون خاليًا من العقبات، فالسياق الإقليمي والدولي ما يزال يفرض نفسه على المشهد السوري. وتبقى سوريا، على الرغم من تراجع السلطة الاستبدادية، مهددة بالانقسامات الداخلية التي جعلتها مسرحًا لأكثر الحروب قسوة في العصر الحديث. لكن في وسط هذا الخراب، هناك بصيص من الأمل، حيث يمكن للسوريين أن يعيدوا بناء وطنهم على أسس من الوحدة والمصالحة والعدالة.
إن هذه اللحظة التاريخية، التي تواكب نهاية نظام حكم آل الأسد، هي دعوة لتأمل التاريخ السوري بكل تعقيداته؛ لتسليط الضوء على حجم التضحية والصمود الذي قدمه هذا الشعب في مواجهة الظلم. ولكنها أيضًا دعوة للأمل، لأن سقوط الأنظمة الاستبدادية لا يعني نهاية الطموح الوطني، بل هو بداية لشعبٍ يبحث عن حرية حقيقية، وعن هوية وطنية جديدة تتجاوز قمع الماضي وتبني مستقبلًا يستحقه.
وفي النهاية، تظل سوريا، بفضل شعبها العريق وتاريخها الحافل، رمزًا للمقاومة والتحدي، لكن رحلتها الطويلة نحو السلام والازدهار لم تنتهِ بعد. وكل خطوة نحو إعادة بناء الدولة وبناء الثقة بين أطياف المجتمع السوري ستكون بمثابة انتصار للشعب السوري، الذي يستحق أن يعيش في وطنٍ خالٍ من العنف، وملئٍ بالسلام والعدالة.
بقلم : فاتن الحوسني
ماجستير في الشؤون الدولية
باحثة وكاتبة في الشؤون الدولية